lundi 16 mai 2016

الڤصبة







لمحة تاريخية على آلات النفخ:
آلآت النفخ القصبية المصنوعة من نبتة القصب التي تنمو على ضفاف مجاري المياه أو بحيرات المياه العذبة، تنتشر في كل أصقاع العالم منذ القدم، ويمكن اعتبارها أقدم الآلآت الموسيقية التي أنتجها الإنسان عندما اكتشف ما تحدثه الرياح من أصوات متموجة ومتنوعة وهي تهب على بقايا سيقان القصب. بعض الحفريات في حقول ومغارات التواجد البشري للعهد البليانطولوجي، كشفت بقايا عظام حيوانات مثقوبة بفوهات باتجاه واحد وبأبعاد معينة وقد فتحت طرفيها بشكل يسهل النفخ فيها، كما تظهر صور قديمة في مدينة أور القديمة بجنوب العراق ويعود تاريخها لـ 2700 عام قبل الميلاد، تمثل قردا ينفخ بطريقة مائلة في قصبة واضعا أصابعه على فوهات ثقبت في القصبة. كما نجد صورا كثيرة على حوامل شتى كالفسيفساء وأطباق الخزف المطلي والمزين تمثل عازفين وعازفات على آلات نفخ متعددة، منفردة أو مزدوجة الأنبوب القصبي أو الخشبي من حضارات الشرق وكذلك المطلة على البحر الأبيض المتوسط  كاليونان وروما أو قرطاج.
          في البلآد المغاربية، تعود آلآت النفخ المصنوعة من القصب لدى السكان الأمازيغ إلى الأزمنة الغابرة، سواء كانت مفتوحة الطرفين كالڤصبة في تونس والجزائر، أوبتسمياتها الأمازيغية "كتِيقصبت" أو "تغانيمت" أو تاشبابت ( الشبابة) أو تمجاج في مناطق وهران والريف والأوراس والقبائل والصحراء وليبيا.أو ذات مبسم مندمج ويُسمى فحل أو مبسم (صيَّاح) مضاف ويسمى زُمَّارة أو قرن إذا أضيف له بوق من قرن البقر ويمكن أيضا أن تكون الزمارة مزدوجة الأنبوب الصوتي وذات بوقين فيسمى مڤرونة. وفي كل الحلات لابد أن يكون الأنبوب الصوتي مثقوبا بعدد من الفوهات يتم بواسطتها تحريك الأصابع سذًا وفتحاً استخراج الترنيمات الصوتية المختلفة.
الآلة:
         يقوم "الڤصاب" أو صانع "الڤصبة" بقص أنبوب من القصب يتراوح طوله من 70 إلى 90 صم، يختاره بمعرفته وتجربته من النوع الهش وبحسب بعضهم، من نوعية من القصب تكون أوراقها خضراء باهتة ومخططة ببياض وتتميز بطول سيقانها المعتدل (من متر ونصف إلى مترين ونصف) وبسماكة نسبية لأنبوبها واعتدال متساوٍ للمسافة الفاصلة من عقد نموها في المنطقة السفلى من الساق بين 8 و10 صم بين عقدة وأخرى، ويتراوح قطرها بين 2 و3 صم .
و تكون المرحلة الأولى بثقب عقد النمو داخل القصبة باستعمال قضيب معدني قطره 6 مم يُحمى في النار إلى حد الاحمرار،و يولج داخل القصبة من الأعلى و من الأسفل لتصبح نافذة و يمر منها الهواء بكل سهولة.
بعد هذه العملية يتم إعداد فوهة النفخ بصورة يكون وضع الشفتين عليها مريحا لنفث الهواء جانبيا كي يحدث صفيرا نقيا و صقيلا. في هذه المرحلة يتم تحديد الطول النهائي للڤصبة بقص الزائد منها من الناحية السفلية، بالاعتماد على منزلة الصوت الذي تحدثه و هي بلا ثقب فوهات موضع الأنامل.
المرحلة الموالية هي الأكثر أهمِّية في إتمام العملية الوظيفية للڤصبة بتحديد مواضع ثقب الفوهات الجانبية. و خلافا لآلة الناي التي بها 6 فوهات أمامية و فوهة خلفية ، فعدد فوهات الڤصبة بين8 و 10 منها 6 للأنامل تليها 3 لوضع صمّام من الشمع يُحدد حسب الطبقة الصوتية للمنشد، أما الثقب الأخير فهو في الأعلى يستعمل عندما تكون المنشدة امرأة نظرا لارتفاع طبقة صوتها.
تتم عملية الثقب بنفس القضيب للحصول على ثقب ذات قطر ب 6 مم. عند هذا الحد يمكن التعديل النهائي للڤصبة بقص ما زاد من طولها للحصول على آلة متناغمة العزف، و لا يمكن الحصول على هذه النتيجة إلا لدى الماهرين من الڤصّابة.
لكل ڤصّاب تقنياته و فنّياته لتهيئة آلته و عادة يسكب بعضهم زيت الزيتون داخل الڤصبة مع تمريرها على النار لليتشبّع الخشب به و هكذا تتم حمايته من رطوبة الهواء الصادر من الرئتين ، كما يزيد بعضهم قليلا من العسل لإعطاء الڤصبة حلاوة النغم حسب رأيهم.
تكون المرحلة الأخيرة تزين الڤصبة بنقشها بأداة حادة بأشكال و رسوم متعددة نجد فيها ما هو مستوحي من النسيج أو الخزف البربري أو الوشم التقليدي وغيرها من الأشكال.عند نهاية عملية النقش، يقع طلاؤها بقليل من الحنّاء السائلة أو الأصباغ المستعملة لخيوط الصوف في النسيج و خاصة منها العكري أو الخمري أو القرمزي. و هكذا تتم عملية صنع الڤصبة ليصُحّ قول الغنّاي فيها:

يا ﭭصبة العود رني *** يا مخضبة بالحناني
يا دمعة العين هلي *** يا معذبة كل زاني
الترنيمات والمهاوي
بحكم خاصيته الرعوية الريفية بامتياز، تترجم الڤصبة ترنيمات  وأهازيج الريف لتونس الأعماق من شمالها إلى جنوبها، وكذلك الشأن في كل البلآد المغاربية.
منذ نزوح المهاجرين الأندلسيين وإلى حدود الثلث الأول للقرن العشرين، لم تدمج الموسيقى المنعوتة بالعالمة في تركيبة أجواقها آلآت نفخ واقتصرت على آلآتها المعتادة كالعود التونسي (العربي) والرباب وآلات الإيقاع طار ودربكة ونغّارات.  ولقد تم إدخال الناي المشرقي لتونس ( وكلمة ناي مشتقة من كلمة نا الأكادية القديمة الأصل وتعني الحزن) في أواسط ثلآثينات القرن الماضي. إلى اليوم لا نجد آلات نفخ ضمن تركيبة أجواق الآلة المغربية. أمَّا في الجزائر وبفضل ما اشتهر به كبار الفنانين الشعبيين الشاويين أو الصحراويين أو الوهرانيين أمثال عيسى الجرموني وبڤـَّار حده والشيخة ريميتي الغليزانية وأحمد خليفي صارت الڤصبة آلة لا محيد عنها في استوديهات تسجيل الأسطوانات والإذاعة والحفلات العمومية لتصير رمزًا لعديد المناطق كالشاوية أو وهران ( القصبة والقلآل).
في تونس قاومت الڤصبة زحف واجتياح أغنية الرَّاديوفون بفضل التشيث القوي لسكان المناطق الرعوية والريفية الزراعية لمرتفعات الشمال الغربي (التل) وبدو السباسب الوسطى والجنوبية. واحتفظت كل جهة بموروثها النغمي حسب خط حدودي ثقافي يتطابق تقريبا مع ما يسمَّى "بـ "« La Fossa Régia » الأخدود الذي خطّه سيبيون إيميليان لرسم الحدود بين الأقاليم الافريقية التي ضمتها روما والأقاليم المتبقية تحت سيطرة الملوك النوميديين حلفاء روما. هذه الحدود الجغرافية التي تنطلق من مصب وادي الكبير بطبرقة  وتنتهي في شكل قوس دائرة في هنشير طينة، أصبح مع مرور الزمن نوعا من الحدود الثقافية تفصل بين لهجات غناء وإيقاعات و جمل موسيقى القصبة بين ما يعرف بوطن فريقا وما جاورها في مرتفعات وسهول الجنوب الغربي ومنحدرات التل الأوسط، هكذا تتقاسم هذه الجهات الغربية من طبرقة إلى توزر، ومن حيدرة إلى غرب القيروان سبيطلة وجلمة، بصفة متفاوتة أو متقاربة مهاوي الركروكي والعبيدي والطرخاني والجندوبي والريش التي ترافقها إيقاعات الفزَّاعي والسية والخيل والدرَّازي والحمَّادي وغيرها....

في حين تتقاسم مناطق السهول الشرقية والجنوب والحنوب الشرقي مهاوي الصالحي والقبلاوي والمشرقي والطواحي والشهيدي، بينما احتفطت جزر قرقنة وجربة بخصوصيات الجزر في ترنيماتها وإيقاعاتها كالقرقني والسجل والحمادي والسلطني والعصمللي.
         على إثر الحرب العالمية الثانية،  وتحديدا في مناطق الجنوب، والحنوب الشرقي تناثرت في الفيافي بقايا معدات النقل العسكرية من بقايا الحرب لتصبح من الاستعمالات الجديدة كصفائح المحروقات التي عوضت شيئا فشيئا القرب نقل المياه وخاصة أنابيب النحاس والألومينيوم والفولآذ التي ولع بها الڤصابة لصنع ڤصبات من نوع جديد عوضت التقليدية تدريجيا إلى أن قضت على ڤصبة العود نهائيا في كل مناطق الجنوب التونسي. مهما يكن من أمر لم يكن من السهل أن يفرض هذا الصوت الجديد والنيّر جدًا "بوقاحته" المعدنية، نفسه على الذائقة التقليدية، لفقدانه للنبرات الخشنة والغرغرة العود الطبيعي التي تصدرها ارتجاجات الموجات الصوتية على مساحة اللبادية الداخلية للقصبة الطبيعية المستمرة الرطوبة. بين المتشبثين بالنقاوة الأصلية لصوت قصبة العود والمتشيعين لقوة صفير الصوت المعدني المجلجل في فيافي الصحراء، لا تبدو نهاية المعركة للقريب العاجل.

Aucun commentaire: