إن ساعة المناخ الطبيعي تلك التي توقع تداول الليل و النهار حسب تعاقب الفصول و المواسم الزراعية المتصلة بها، تعتبر الأقرب للساعة البيولوجية البشرية التي تنظم نسق حياة الإنسان بين فترات النوم و فترات العمل و الجهد و التعب و ساعات الاسترخاء للراحة و ساعات جمع الشمل والاجتماع للحديث و تبادل التجربة و الترويح عن النفس. و الإنسان اجتماعي بطبعه في حاجة مستمرة للحكاية و الحديث إنصاتا و سردا، لذلك سمت لدى المجتمعات الأسرية قواعد و آداب للإنصات و السماع إلى مرتبة رفيعة و أصبحت تشكل صفة تميزها عن غيرها، فكانت شجرة الحكمة الباوباب عند الأفارقة أو الميعاد عند أجدادنا أو سهرات تخزين القات عند اليمنيين أو جلسات التحادث مع تدخين الغليون لدى الهنود الحمر. و تبدأ لدى الأطفال الرحلة التلقينية التي ستمكنهم من اختراق مراحل طفولتهم ، بالتدرب و النشوء على هذه القواعد و الآداب صمتا و إصغاء و تلقيا للنصح و الكلام، أو بوجوب انصرافهم من مجلس الكبار لأن الحديث لا يعنيهم، و فيما بعد بتدريبهم على الحديث في حلقة الأعمام و الأخوال للتفكه بطريف كلام الصبا و الطفولة في حنين لذلك الزمن العذب. و هكذا يتأثث لبنة لبنة بيتهم الداخلي و يتبلور كيانهم انطلاقا مما سمعوه من الآباء و الأمهات، على نحو المثل الشعبي الذي يقول: من أدرك أباه فقد سمع ما قال جده . فتتصل حلقات التقاليد و تتسلسل الأنساب و الأجداد و تضل شجرة العادات خضراء بورقها ترتوي من سواقي الماء الحي الذي يسيل مع الأجيال دون انقطاع. و يكبر الصغار من أبناء جيلي في بداية الخمسينات، كما يكبر الأطفال في كل الدنيا على هذه الآداب وقد حماهم حسن الإنصات و السماع كما يحمي اللـِّبا الرضيع، في زمن لم يطله بعد التلوث الصوتي و لا تضخم عدد أجهزة البث الإذاعي. فكان التراكم الذي يحصل لنا من أصوات الباعة و الأغاني و أنشودات السنوات الأولى من الدراسة و حكايات حلقات باب منارة و الحلفاوين و سوق العصر - أن سمح لنا بها- يتعدل بصورة طبيعية، فلا يبقى منه إلا ما كان يمكن ترديده و إعادة سرده. هكذا تكونت ذائقة جيل مختلف عن الجيل السابق فالمدرسة الحديثة بدرجة أولى ثم الشارع سيأخذان حيزا وافرا في بناء كيانه. و مع تقدم الأعوام تشكلت لهذا الجيل باختلاف الجهات التي ينتمي إليها أفراده وظروفه الاجتماعية و المادية المتباينة، خلفية ثقافية متجانسة نسبيا، تعبر عنها ذائقة أدبية و فنية و مسرحية و موسيقية متسعة، هذا ما مكنه من اختراق الأنماط و الألوان براحة تامة. لقد كان شباب الستينات يتجول في العوالم الموسيقية التونسية و الشرقية و الغربية و المعاصرة، و المسرح الكلاسيكي و الطلائعي و السينما بمختلف مدارسها و الأدب العربي و الغربي دون مركبات . لم تكن هذه الثقافة و الفنون مسلطة عليه تفرضها أدوات الاتصال و الإعلام، بل كان يدفعه لاكتشافها فضول فكري و نهم معرفي و تنافس في الألمعية ولـَّدها لديه مدرسون و أساتذة تحول الكثير في أعين ذاك الجيل إلى آباء روحيين و مثال يُحتذى به . لقد كان هذا الجيل من كل التظاهرات الأدبية و المسرحية و الموسيقية: محاضرات طه حسين و نعيمة، مسرحيات رسين و موليار و شكسبير...كانت تكتظ به القاعات و دور الثقافة و المسارح و سهرات مهرجان الجاز الدولي بقرطاج...هذا الجيل الذي نهل من آداب الإنصات و السماع البدائية، ضل يكتمل صقل ما تراكم له من الزخم الفني و الثقافي في نوادي السينما و الشبيبة المدرسية على أيدي أساتذة الموسيقى و المسرح و الرسم، في ديناميكية قلما توفرت من قبل بذلك الكم و الكيف، كان فيها الإنصات و السماع أمرا ثابتا لا محيد عنه.
و اليوم و قد انحسر مجال حديث الأباء و الأجداد و هم في حالة من الاسترخاء و التقبل لمواصلة ربط حلقة «من أدرك أباه فقد سمع ما قال جده» و تراجع الميعاد الذي يجمع الشمل لتبادل التجربة، احتلت الشاشة محور المجمع العائلي المتقلص، و سيطرت الصور و الأصوات تحملها الأقمار و تلج البيوت دون استئذان، و استبدلت شبكة السرد و الرواية بشبكات التواصل الافتراضي و الهمس الصامت عبر الشاشات التي لا تتحمل الكلام المسموع . في زمن ارتفع فيه ضجيج الأشرطة و الكليبات بغير موجب و في غير محله، يغيب فيه الكيان المثبت للوجود و تهيمن قيم المظاهر الزائفة، ويحل العنف اللفظي العاجز محل « التي هي بالحسنى » نتساءل بكثير من الحيرة و القلق هل نحن حقا آباء أطفالنا أم هم أبناء المشهد التلفزي بكل فضاعاته و أهواله؟ من أين سيؤثثون بيتهم الداخلي و من أين لهم مكوناته؟
أحيانا تفاجئنا الصور التلفزية بلحظة من السحر والإمتاع فنجد وقتها حالة الاسترخاء الطبيعي لاستعادة موهبة السماع و يعود الوجدان لينبض عندما نعيش إنشادا صادقا فنغالب العبرة الخانقة كي لا نكون «ضعافا» : باجدوب و الصويري و السفياني أسماء خرافية في دنيا الآلة الأندلسية المغربية، عندما يجتمع ثلاثتهم و حولهم جوق متميز يصبح الإنشاد بمثابة قداس يأخذ بمجامع القلب و الروح و العقل، ذاك هو الحال و الوجد الذي يعيشه السبعة آلاف متفرج الذين غص بهم فضاء مهرجان الرباط و مثلهم الواقفين خارجه لنفاذ البقاع . ترتقي علاقة الإنصات و السماع بين باجدوب و الصويري و السفياني و الجوق المرافق لهم من جهة و الجمهور الحاضر في القاعة و خارجها، إلى نوع الحميمة التلقائية يأخذ كل طرف بقسطه: الإنشاد للثلاثي و العزف للجوق و الترديد للجمهور الهادئ المستمتع. أكيد أن هذا التكامل و الانسجام يعطي الفنان أجنحة يحلق بها إلى أرقى منازل العطاء و التألق. لم أقو على صد قشعريرة حزن ساعتها رغم ما كانت تغمرنا بها السهرة من مشاعر السعادة حين شعرت برفرفة طيف سي الطاهر غرسة و قلت في سري: من سيعيد بعدك لنوبات الحسين و الذيل و رمل المايه بريقها و رونقها أم سنعود لنهمهم بلوعة و أسى:
آه علـى مـا فـات *** نـاري لـهـا وقود
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire