mardi 15 mars 2011

علاقة النخب بالتراث: نفور أم عجز



لا تقف علاقة نفور النخب و رفضها عند حدود التعابير الغنائية و الشعرية للتراث الشعبي، بل تتجاوزه للعديد من أوجه الحياة اليومية و الصنائع و العمارة و التقنيات. و لا أدل على ذلك التعبير الشائع و المتداول لدى الخاصة و العامة كقولهم مترجمين النعت الفرنسي المقلل من قيمة أي عمل يقوم به عربي: محراث عربي أو طريق عربي و بلاد عربي أو كوبة عربي – لاحظوا أن عربي تبقى دائما في صيغة المذكر- و لم يتحول العربي إلى محل استحسان إلا في بعض السلع و المنتوجات المرتبطة بالمأكل كالبيض و الدجاج و الخروف و السفرجل أو الأزهار كالورد وغيرها. و لم يسلم من هذا التمييز العنصري تقريبا إلا الأسماك بالرغم من ظاهرة تربيتها في أحواض بنظم مستوردة. و لئن عاد تعلق الكثير لكل ما هو محلي كمصوغ الفضة التقليدي أو الخزف المعروف بعفسة صيد أو المنسوجات الصوفية أو العديد من الأثاث القديم الذي تمتلئ بها المحلات المختصة، فذلك لا يعود لوعي بالذات و اعتزاز بها، بقدر ما هو أساسا من باب المحاكاة لعلاقة الغربيين مع أشياء لها وظيفة نفعية معينة يحولونها لعناصر ديكور. أشياء كثيرة اندثرت من ذاكرتنا بقي البعض منها في شكل تحف تزين الصالونات و لربما مر بجانبها بعض الشباب دون أن يدرك استعمالها الأصلي. في تتال صامت يكاد لا ينتبه له أحد، تنقرض حرف و صنائع تجمعت بين تفاصيل تقنياتها معارف كدستها أصابع و أنامل و مهارات أجيال من الحرفيين، حرف أغرقتها سلع و منتجات الصناعات الكثيفة لا تحس فيها أثرا ليد البشر. حرف حملت معها المعارف المتصلة بها فانقطعت سلسلة التواتر المعرفي الذي تحكمت في دوامها طوال قرون فلا تكاد تجد من يحدثك عنها حديث العارف بخباياها و أسرارها. هكذا تندثر صروح من مكونات الذات و من ذاكرتها تحت وطأة الاستعمار الاقتصادي، من جهة، و بسبب تفريط أهلنا الذين يغريهم بريق سلع الحداثة الزائفة، حتى غزانا البلاستيك أوعية و شكائر و أحذية و سجادا و فراشا و أواني أكل ، و لم يعد ممكنا الاستمتاع بشربة لبن في شكوة من جلد الماعز. ربما يبدو في هذا حنين في غير محله أو مما تجاوزه الزمن، و يقال لنا ذاك هو منطق التاريخ و التقدم التكنولوجي، و في الأخير البقاء للأفضل إلى أن نصل إلى لغة الكف ما تعاند الإشفا، و حتمية الاستعمار، و بالتالي فإن قدر البلدان الخارجة عن المنظومة الرأسمالية الليبرالية، هو الفناء و فقدان خصائصها و الذوبان في النمط الثقافي و الإنتاجي المعولم. إن فقدان الذاكرة هو بداية فقدان المناعة الاجتماعية و التدرج شيئا فشيئا في نوع من الخرف الذي بجعل الناس غير قادرين على استعادة الدفاعات التلقائية.
أينما جال بصرك أو سرح خيالك أو ذاكرتك بين منعرجات الأسواق، و استرجعت أصوات المطارق و الأزاميل و القوادم و المقصات تطوع المعدن أو الخشب أو الحجارة . أينما حملتك الطرق في البراري، إلا و استرعى انتباهك عدد الأدوات التي تشاركت في تحويل وجه الأرض حتى تنبت و تزهر و تثمر.
يقول المثل : « الفرس أجمل فتوحات الإنسان » إذ بها جاب الأرض و غزاها، لعل صناعة القوارب و السفن فتح لا يقل جمالا و أهمية عن الفرس. لقد كان لأهلنا من سكان السواحل فنون و تقنيات أهلتهم لبناء سفن شقت البحار و ربطت المواني ببعضها محملة بالبضائع و الركاب. و لبناء هذه السفن و القوارب التي تستدعي طاقة الرياح لتدفع الأشرعة، تتكاتف عديد الفنون و الخبرات بداية من اختيار الخشب مرورا بالتحكم في الهندسة الثلاثية الأبعاد و المعرفة بالأشكال الملائمة لاختراق الموج و مصارعة الرياح و اكتساب التوازن على سطح الماء و مقاومة الانقلاب و الشحط… على طول امتداد السواحل التونسية، نشأت دور الصناعة و تطورت، من بنزرت إلى جرجيس مرورا بالمهدية و قرقنة خرجت على لأيدي بنائي السفن عديد الأشكال المرتبطة بميناء دون غيره و لكل شكل ميزاته. و تبقى السفن و المراكب الشراعية أكثر سحرا و إغراء لما توحي به من الجمال و الخيال بأشرعتها البيضاء تملؤها الرياح فإذا بها تتحول إلى أجنحة طيور عملاقة فكأنها الرخ يعيدك لزمن السندباد و رحلاته الخرافية ، عندها نتأكد أننا ننحدر من سلالات من البحارة الفينيقيين و العرب و الأتراك جمَّعنا من معارفهم و عبقريتهم فكان لنا في المتوسط ريَّاس حموا الشواطئ فتحولوا إلى أولياء يُتغنَّى بمناقبهم.
من المراكب التي سكنت في خيال الكثير منا، مركب من اختراع و هندسة بحارة جزيرة قرقنة، مركب ربط لقرون الأرخبيل بالقارة و كان مورد الرزق الأساسي للقراقنة: اللود مركب ذو صاريتين كان و ما زال محل فخر أهل الجزيرة . اندثر اللود من المشهد البحري القرقني و حل محله المركب الهجين الإيطالي ديبوصط ، و كاد يَنمـحي اللود بكل أسراره لولا تعلق أحد المولعين الذي أعاد مغامرة بنائه فدعا من تبقى من الرياس القدامى ليستجمعوا معارفهم الغير موثقة، فحظرت المعجزة و صدقت النية و ولد اللود من جديد كما يولد الطائر البديع من رماده، أنزل المركب للماء و دخل السباق و كسبه. كل هذه المغامرة تم توثيقها وليجعل منها الدكتور الصديق الجدي و العربي بن علي موضوع فلمهما الأنثروبولوجي.
ما زال في الجزيرة لود خرافي آخر يقبع في مكان غير بعيد عن مرسى النجاة، لود تناسته بعض الجهات، مركب يحمل بين ألواحه و مساميره صفحة من صفحات الذاكرة الوطنية القريبة. لود النجاة الذي نقل الزعيم الحبيب بورقيبة أيام النضال التحريري يبدو وكأنه أهمل على شاطئ منسي فحوَّله البعض إلى بؤرة عفنة و نتنة ، نشعر بكثير من الألم لمشهد الخراب المزري و المخجل الذي آل إليه المكان،مشهد لا يمكن البتة أن يترجم العلاقة التي تربطنا بجزء من ذاكرتنا أحببنا أم كرهنا

2 commentaires:

géranium a dit…

Moi j'aime bien ce que tu écris, je suis une fidèle de ton blog et j'ai adoré les poèmes et les textes de Shayer Ouled Ahmed qui as mis à notre disposition, surtout le texte intitulé: آنَ لي أنْ أخْتارَ ما بين موْطني ووَطَني.
J'aime bien aussi les poèmes " eche3r elmal7oun" que tu publies. Bravo, continue à nous enchanter par ton style bien distingué et par ton engagement remarquable pour l'égalité, la justice et la dignité

Azwaw a dit…

C'est gratifiant de lire de tels commentaires; ce n'est pas évident d'être aussi bien perçu tous les jours.Merci de ta fidélité, ceci m'encourage d'être à la hauteur des attentes des lecteurs.