mardi 1 janvier 2013

تونس تستانس وتنسى ناسك ومكتوب في الأنهاج دبّر راسك



يقول جدي في مطلع قصيدة عند دخوله تونس مغتربا من الدويرات:                              
من يوم ان خشيت من باب الفلة*قلبي زي الليل لا با يجَلى
في الفضاء العمراني لمدينة تونس لبداية القرن العشرين، يتكون بين أبناء جاليات الجنوب تقارب عفوي و توادد طبيعي يتجاوزان انفعالات حدس التآزر و التضامن البدائي الذي يعبر عنه ابن خلدون بمفهوم «  العصبيات ». حقا هؤلاء الناس الطيبين من الجريد و المطوية  و قابس و الحامة و ورغمة و نفزاوة و غيرهم من تمزرت و بني خداش، يعيدون إنشاء  جزر الألفة و التجمع في فضاء المدينة على المستوى الحرفي   أو على مستوى السكن و أماكن الالتقاء العامة. من المر إلى  ترنجة ، و من الحفصية إلى الصباغين، و من الرحيبة إلى سيدي البشير مرورا بالحجامين، أو في ما حول الجامع الأعظم من مقاهي و مكتبات و باعة كتب نادرة و وراقين و حوانيت التسفير و محلات الحرف العديدة، هذه الأماكن بما تحملها من تاريخ قديم و ما يعتمل داخلها من تحولات ، تشكل لهؤلاء   المغتربين – الذين لا سلوى لهم لفراق أوطانهم- وكرا افتراضيا يلتئم فيه ميعاد الوطن المفقود ليتبادلوا أخبار القرى و الأهل هناك و يستخبرون أحوال المطر و الصابة  و يتقاسمون الأحزان و العزاء لفقد قريب أو حبيب، و لممارسة ولعهم المفضل منذ القدم : فنون الكلام  الجميل الحلو عندما يتمازج الشعر بالسرد و الحكاية و الفكاهة الذكية.
« خدامة-حزام » أو أعيان، متعلمون أو ، حرفيون طلبة بالزيتونة  أو عاطلون عن العمل، يجتمعون  فيما بينهم دون كلفة أو حرج، لا تفرقهم الحواجز الاجتماعية ، تشدهم أواصر القربى ، عائلات و عروش و قبائل أو« على ريحة الريحة و ريحة البلاد ». و هكذا تتكون الحلقات  في المدينة و ربضيها و تتسع و تتقاطع مع حلقات أخرى، دافعة حدود الخصوصيات المحلية و متجاوزة اختلاف اللهجات، تحركها دوافع صداقة متينة  و تآزر لا حد له، في زمن انهارت فيه بًنى المدائن العتيقة  فكسدت تجارتها  و أفلست حرفها و عمت البطالة الشباب  و وضع البؤس وزره على عباد أكتافهم نحيلة هشة فراحوا يُغرقون  تعاستهم  في فراديس« السبسي » على إيقاع  « البشقي» . هذه التجمعات التي تتقد حياة و تتوهج دفئا، كانت بمثابة التعبير البدائي لمقاومة الانصهار و الاندماج  في المجتمع الحضري، اندماج يعني للكثير من أبناء الجنوب فقدان « الروح ».
 في هذه التربة المتصلة روحيا مع أرض الأجداد، ستنبت و تنموا الأوجه المتعددة  لمقاومة فردية و جماعية و التي ستساعد على بروز شخصيات خارقة للعادة أمثال أبي القاسم الشابي و محمد علي الحامي  و الطاهر الحداد  رواد المقاومة الأدبية و الاجتماعية و السياسية في مرحلة أولى، و محمد المرزوقي و مصطفى  و البشير خريف فيما بعد .
شخصيات كان لها من التجذر في أعماق الهوية و وعي حاد بالواجب أمام حالة التذرية الاجتماعية، و حس مرهف لما يكمن من طاقات هائلة في روح الشعب، عوامل جعلت مسلكهم أعسر و مسيرتهم أرقى لأنهم فضلوا نهج الطريق « الملكية »،فيما ركن غيرهم للاستقالة و قبول حتمية التعاسة و الدمار. وجوه كثيرة فيها من احتفظت الذاكرة بملامحها و أخرى طواها الزمن القاسي و النسيان، جمعتهم مقاهي أحمد قحة و البلار و تحت الدربوز و الجمعية و الهناء و تحت السور عند خالي علي، مع ثلة أخرى من  الكتاب و الشعراء و الصحفيين و الموسيقيين عرفوا بجماعة «تحت السور»، أمثال كرباكة و العريبي و المهيدي و العروي و الدوعاجي و العبيدي و بيرم و الجندوبي و بن فضيلة و السنوسي....و غيرهم.
مَحمد المرزوقي من الوجوه البارزة التي كان لها من تعدد الأبعاد و المشارب، ما يجعله خارج الزمن، فهو كاتب و شاعر و مهتم بالمسرح و الصحافة و الأغنية  مواضب الحظور  بالنوادي الأدبية، يقول عنه الطيب العنابي: « و لقد كان المرزوقي في تلك السن (17 عاما) يقرأ أكثر مما نقرأ، و يحفظ أكثر مما نحفظ، و كانت له في كل ناد محاضرة ، و في كل سهرة مسامرة ،و في كل موضوع قول، و في كل مهرجان قصيد، و قد كان لقلة ما بيده قد يبيت على طوى و لكن لم يكن يمر به يوم دون أن يكتب فيه أو يخطب.....[1]»
عرفته في الخمسينات و أنا ما زلت طفلا، لصداقة جمعته مع والدي، و اكتشفت الرجل في السبعينات عند بداية اهتمامي بالتراث الشعبي، فوجدت فيه عالم الاجتماع و عالم الأناسة و المؤرخ المولع بالذاكرة الجماعية التي أفنى الجزء الكبير من حياته في الحفاظ عليها جمعا و تسجيلا و بحثا و تحقيقا و دراسة.
و كم آسف أنا و غيري عندما نرى كل ذاك المجهود الذي بذله سي مَحمد مع رفاقه  طوال أكثر من ثلاثين عاما يدفن في دهاليز الأرشيف الوطني، و كأن التراث مسألة وقتية دامت لزمن معين و اليوم انتهى الاهتمام بها و لم نعد بحاجة إليها!
ملحق: لاشكون تحرقص يا...
لست أدري هل هو الجهل بما حملته هذه الفترة من تاريخ بلادنا أم هو التعامي على جانبه الدرامي المأسوي  هي التي تجعل البعض من صانعي الصورة  و الأعمال الدرامية المستوحاة من التاريخ أو الخيالية، يـُلحون في تقديمهم لهذه الفترة بمظهر  بداية القرن و الثلاثينات من التاريخ الفرنسي أي «  L es années folles et la belle époque» . و يشحنون صورهم بخطاب من الحنين  و الإعلاء لها بمنطق « يا حسرة يا زمان »  و كأن الحاضر  من التعاسة ، ما يجعلهم في حاجة لماض خيالي يسبغون عليه كل أوجه الترف و السعادة و الرخاء و البحبوحة. فمتى يقلع هؤلاء  و غيرهم عن اعتبار موسيقيي سيدي مردوم و رتيبة و لويزة و فليفلة وحبيبة – و أترك  للقارئ إضافة ما اشتهى من الألقاب لهن – من أرقى التعابير الغنائية و الموسيقية و الشعرية لهذا البلد، و متى يعود كتاب السيناريو لشيء من الجدية و ينهوا لغير رجعة مسلسل الديار العربي و الجليز و الرخام  و يلتفتوا إما لواقع الأمس أو اليوم، بخيال جيد لا بحكايات تنويم الصبيان .


[1] العمل الثقافي: س3 ع 103 مارس 1971

Aucun commentaire: