يقول جدي في مطلع
قصيدة عند دخوله تونس مغتربا من الدويرات:
من يوم ان خشيت من باب الفلة*قلبي زي الليل لا با يجَلى
في الفضاء العمراني لمدينة تونس لبداية القرن العشرين،
يتكون بين أبناء جاليات الجنوب تقارب عفوي و توادد طبيعي يتجاوزان انفعالات حدس
التآزر و التضامن البدائي الذي يعبر عنه ابن خلدون بمفهوم « العصبيات ». حقا هؤلاء الناس الطيبين من
الجريد و المطوية و قابس و الحامة و ورغمة
و نفزاوة و غيرهم من تمزرت و بني خداش، يعيدون إنشاء جزر الألفة و التجمع في فضاء المدينة على
المستوى الحرفي أو على مستوى السكن و
أماكن الالتقاء العامة. من المر إلى ترنجة
، و من الحفصية إلى الصباغين، و من الرحيبة إلى سيدي البشير مرورا بالحجامين، أو
في ما حول الجامع الأعظم من مقاهي و مكتبات و باعة كتب نادرة و وراقين و حوانيت
التسفير و محلات الحرف العديدة، هذه الأماكن بما تحملها من تاريخ قديم و ما يعتمل
داخلها من تحولات ، تشكل لهؤلاء المغتربين – الذين لا سلوى لهم لفراق أوطانهم- وكرا
افتراضيا يلتئم فيه ميعاد الوطن المفقود ليتبادلوا أخبار القرى و الأهل هناك و
يستخبرون أحوال المطر و الصابة و يتقاسمون
الأحزان و العزاء لفقد قريب أو حبيب، و لممارسة ولعهم المفضل منذ القدم : فنون
الكلام الجميل الحلو عندما يتمازج الشعر
بالسرد و الحكاية و الفكاهة الذكية.
« خدامة-حزام » أو أعيان، متعلمون أو
، حرفيون طلبة بالزيتونة أو عاطلون عن
العمل، يجتمعون فيما بينهم دون كلفة أو
حرج، لا تفرقهم الحواجز الاجتماعية ، تشدهم أواصر القربى ، عائلات و عروش و قبائل
أو« على ريحة الريحة و ريحة البلاد ». و هكذا تتكون الحلقات في المدينة و ربضيها و تتسع و تتقاطع مع حلقات
أخرى، دافعة حدود الخصوصيات المحلية و متجاوزة اختلاف اللهجات، تحركها دوافع صداقة متينة و تآزر لا حد له، في زمن انهارت فيه بًنى
المدائن العتيقة فكسدت تجارتها و أفلست حرفها و عمت البطالة الشباب و وضع البؤس وزره على عباد أكتافهم نحيلة هشة
فراحوا يُغرقون تعاستهم في فراديس« السبسي » على إيقاع « البشقي» . هذه التجمعات التي تتقد حياة و
تتوهج دفئا، كانت بمثابة التعبير البدائي لمقاومة الانصهار و الاندماج في المجتمع الحضري، اندماج يعني للكثير من أبناء
الجنوب فقدان « الروح ».
في هذه التربة المتصلة روحيا مع أرض الأجداد،
ستنبت و تنموا الأوجه المتعددة لمقاومة
فردية و جماعية و التي ستساعد على بروز شخصيات خارقة للعادة أمثال أبي القاسم
الشابي و محمد علي الحامي و الطاهر
الحداد رواد المقاومة الأدبية و
الاجتماعية و السياسية في مرحلة أولى، و محمد المرزوقي و مصطفى و البشير خريف فيما بعد .
شخصيات كان لها من التجذر في أعماق
الهوية و وعي حاد بالواجب أمام حالة التذرية الاجتماعية، و حس مرهف لما يكمن من
طاقات هائلة في روح الشعب، عوامل جعلت مسلكهم أعسر و مسيرتهم أرقى لأنهم فضلوا نهج
الطريق « الملكية »،فيما ركن غيرهم للاستقالة و قبول حتمية التعاسة و الدمار. وجوه
كثيرة فيها من احتفظت الذاكرة بملامحها و أخرى طواها الزمن القاسي و النسيان،
جمعتهم مقاهي أحمد قحة و البلار و تحت الدربوز و الجمعية و الهناء و تحت السور عند
خالي علي، مع ثلة أخرى من الكتاب و
الشعراء و الصحفيين و الموسيقيين عرفوا بجماعة «تحت السور»، أمثال كرباكة و
العريبي و المهيدي و العروي و الدوعاجي و العبيدي و بيرم و الجندوبي و بن فضيلة و
السنوسي....و غيرهم.
مَحمد المرزوقي من الوجوه البارزة
التي كان لها من تعدد الأبعاد و المشارب، ما يجعله خارج الزمن، فهو كاتب و شاعر و
مهتم بالمسرح و الصحافة و الأغنية مواضب
الحظور بالنوادي الأدبية، يقول عنه الطيب
العنابي: « و لقد كان المرزوقي في تلك السن (17 عاما) يقرأ أكثر مما نقرأ، و يحفظ
أكثر مما نحفظ، و كانت له في كل ناد محاضرة ، و في كل سهرة مسامرة ،و في كل موضوع قول،
و في كل مهرجان قصيد، و قد كان لقلة ما بيده قد يبيت على طوى و لكن لم يكن يمر به
يوم دون أن يكتب فيه أو يخطب.....[1]»
عرفته في الخمسينات و أنا ما زلت طفلا،
لصداقة جمعته مع والدي، و اكتشفت الرجل في السبعينات عند بداية اهتمامي بالتراث
الشعبي، فوجدت فيه عالم الاجتماع و عالم الأناسة و المؤرخ المولع بالذاكرة
الجماعية التي أفنى الجزء الكبير من حياته في الحفاظ عليها جمعا و تسجيلا و بحثا و
تحقيقا و دراسة.
و كم آسف أنا و غيري عندما نرى كل ذاك
المجهود الذي بذله سي مَحمد مع رفاقه طوال
أكثر من ثلاثين عاما يدفن في دهاليز الأرشيف الوطني، و كأن التراث مسألة وقتية
دامت لزمن معين و اليوم انتهى الاهتمام بها و لم نعد بحاجة إليها!
ملحق: لاشكون تحرقص يا...
لست أدري هل هو الجهل بما حملته هذه
الفترة من تاريخ بلادنا أم هو التعامي على جانبه الدرامي المأسوي هي التي تجعل البعض من صانعي الصورة و الأعمال الدرامية المستوحاة من التاريخ أو الخيالية،
يـُلحون في تقديمهم لهذه الفترة بمظهر بداية القرن و الثلاثينات من التاريخ الفرنسي أي
« L es années folles et la belle époque» . و يشحنون صورهم بخطاب من الحنين
و الإعلاء لها بمنطق « يا حسرة يا زمان » و كأن الحاضر من التعاسة ، ما يجعلهم في حاجة لماض خيالي
يسبغون عليه كل أوجه الترف و السعادة و الرخاء و البحبوحة. فمتى يقلع هؤلاء و غيرهم عن اعتبار موسيقيي سيدي مردوم و رتيبة و
لويزة و فليفلة وحبيبة – و أترك للقارئ
إضافة ما اشتهى من الألقاب لهن – من أرقى التعابير الغنائية و الموسيقية و الشعرية
لهذا البلد، و متى يعود كتاب السيناريو لشيء من الجدية و ينهوا لغير رجعة مسلسل الديار
العربي و الجليز و الرخام و يلتفتوا إما
لواقع الأمس أو اليوم، بخيال جيد لا بحكايات تنويم الصبيان .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire