mercredi 16 décembre 2009

الموت بكلام صائب و في محله، لا بالكلام الفارغ


مما يُروى عن الجازية من حكم و أقوال «أن الهلاليين لا يموتون بالسلاح و إنما يموتون بالكلام !» أي بالكلام الصائب الذي يكون في محله فيبلغ مقصده و هدفه هذا شأن المجتمعات التي تحتل المشافهـة الحيز الأوسع في آدابها، فيرتقي الإبداع من فنونها درجات رفيعة سواء كان رواية و سردا أو شعرا أو حكما و أمثلة تساق، مهما كانت لغة المشافهة خالية من الإعراب و غير مطابقة لقواعد النحو، « فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود و لمقتضى الحال من الوجود فيه» كما يقول ابن خلدون و مثلما تألق شعراء الفصحى و رواتها في بناء المخيال و دواوين أشعار العرب، نبغ من عامة الناس على مر العصور من كان فيهم أفصح لسانا و أوسع خيالا و أرهف حسا لينقشوا على صفحات سجل الذاكرة من أجمل الأشعار و أغرب الحكايات و أصوب الأمثال في لغة تتطور بتطور المجتمع قيما و ثراء و خيالا. من ذلك أن لهؤلاء الشعراء و الرواة من المكانة و من الضرورة ما جعل وظيفتهم الاجتماعية تأخذ مكانة تقترب إلى القداسة، و شخصياتهم تأخذ أبعادا خرافية فتتكون بذلك ميثولوجيا الشعوب و خرافاتهم لتهدهد نوم الصبيان و يلتئم حولها ميعاد القبائل و ترتفع بها الأهازيج و الأناشيد و الملاحم، في لغة متداولة استطاعت عبقرية المبدعين أن تستخرج من عمقها و أحشائها تبر الزمان فصاغوا منها أجمل القصص و القوافي.
و يعتبر الرواة الذين نهلوا من نبع التجربة المتواترة مشافهة، أولئك الذين سافروا بعيدا في الزمن أو في المكان، - باعتبار أن كل من رأى و اطلع كثيرا يمكن أن يكون حفظ كثيرا- أكثر من غيرهم حظوة وانتشارا بين الناس، فهم على عكس الشعراء و المنشدين، لا تقيدهم مواسم معينة لسرد رواياتهم ، فكل المناسبات و الأماكن سانحة لذلك، فتراهم سرعان ما يؤثثون مسرح أحداث حكاياتهم الخيالية أو الواقعية و يشخصون أبطالها فيثيرون فضول مستمعيهم و يشدون انتباههم بلغتهم المميزة، التي تستشف منها ما بذلوه من جهد لانتقاء مفرداتها، فضلا عما اكتسبوه من فنون التمثيل و التشويق واستدراج السامعين والتملك بمشاعرهم وحتى بأعصابهم. و الراوي غالبا ما يتحول إلى صديق و محل ثقة، إذ قلما نجد حكاية خالية من عبرة أخلاقية أو اجتماعية،فهو عندما يسوقها يكسب ثقة سامعيه، إضافة إلى ما يقدمه من النصح للسامع في استطرادات على هامش السرد و كأنه يسر بها لأخ أو لصديق وفي.
و لم يكن الراوي، في تقاليدنا محترفا لهذا الفن بالضرورة، ما عدا من ترمي بهم الطرق من المتسولين : مدَّاحة و باعة الأعشاب الطبية و مروضو الثعابين و مغنون و رواة الملاحم الشعبية أو فداوي المقاهي...العديد من الرواة كانوا من الذين سافروا كثيرا: بحارة أو لتجارة أو لحج أو في هجرة و مغامرة ، و فيهم أيضا من كان مستقرا تاجرا، حرفيا أو فلاحا، في بلاده، لكنه يعرفها جيدا و يلم بتقاليدها و خرافاتها، و فيهم كذلك أول من فتح لنا صندوق الخرافة في طفولتنا: جداتنا و أجدادنا، ذلك السفر الضخم الذي لا ينضب من «أفلام طفولتنا البدائية». موسوعات تزخر بالروايات و المغامرات ضمتنا بدفئها و حنانها أيام لم توجد لها ضرة تبث صورا من كل الدنيا، صور لا طعم و لا رائحة لها تضاهي رائحة عجائز مخضبات الشعر بالحناء و شيوخ علق ببرانيسهم عبق العطر و التبغ المخلوط بالرمث...
في ربوعنا وبتنوع لهجاتنا انسجمت على أيدي الرواة و الشعراء لغتنا المتداولة في علاقة بين المتحدث الباث و المنصت المتلقي،فكان النسيج الذي يسديه الرواة بتنوع خيوطه و غزله و أصباغه، من الناس المجهولين، جداتنا و أجدادنا، إلى بن موسى و الدوعاجي و من عبد الصمد الذي قال كلمات و كلمات إلى العروي، بمثابة المضادات الحيوية التي تقي جسم اللغة المتداولة، من الجراثيم و الفيروسات اللغوية المنحطة التي تنتجها - بصورة طبيعية - أغوار الحضيض الاجتماعي ، فسلمت اللغة أو لنقل سلم ما كان راقيا فيها و عُزل ما كان من نوع القنابل « المُصمة» للآذان في محتشدات الأزقة المظلمة بين منتجيه و مستهلكيه .
و نال اللغة العامية شرف الطباعة فرفلت في أبدع حلل المجلات و الجرائد منذ بدايات القرن الماضي، وتفنن فيها الكثير من أصحاب الأقلام «الفقيهة» قصصا ونوادر و مقالات و مسرحيات و روايات إذاعية و أزجالا في زمن كان للإنصات آدابه.
«
الملل هو طائر الأحلام الذي يرجن بيضة التجربة و يحضنها، و خشخشة الصحف اليومية تنفره، ذاك ما يجعل هبة الإنصات و الانتباه تضيع . تضيع لأن لا أحد ينصت اليوم و هو ينسج أو يغزل. إذ كلما كان المستمع متناسيا لنفسه، كلما رسخ ما يستمع إليه في أعماق ذاكرته، عندما يتمكن منه نسق العمل يزيد اهتماما لسماع الحكايات بصورة تمكنه من امتلاك موهبة رواياتها بدوره. هكذا تشكلت الشبكة التي تحوي موهبة الرواية، و هكذا تنحل في أيامنا هذه عقد الشبكة من كل ناحية بعد أن عـُقدت منذ آلاف السنين، حول أقدم أشكال الحرف التقليدية

هكذا يعلق الفيلسوف الألماني فالتر بنجامين على تراجع فن السرد الشعبي في ضل تطور الإعلام و هيمنة الخبر على اهتمام السامع. كذلك بالنسبة لنا يبدو أن تقدم التواصل المكتوب و السمعي المرئي على حساب المشافهة، و انهماك الناس في نسق الحياة العصرية المتسارع، وتقلص الوحدة العائلية لجيل واحد أقصى منها الأجداد و الجدات، كان لها الأثر السلبي على تراجع السرد و الراوي الشعبي. هل لهذا التراجع علاقة بتقلص الإبداع في اللغة المتداولة و انحسار سجلها و خيالها و هيمنة لغة البذاءة في الشارع الذي نشهده في أيامنا؟

و الإبداع في نهاية الأمر ليس حكرا على اللغة الفصحى ، و تناول اللغة العامية كتابة أو كلاما إذاعيا و تلفزيا أو شعارات إشهارية، لا يعفي مستعمليها البتة من ضرورة الارتقاء بها شكلا و مضمونا و خيالا بنفس المجهود و نفس الجدية و الصرامة التي تستوجبها الكتابة بالفصحى. و لعل ما يتوصل إليه كل من توفيق الجبالي في كلام الليل و الفاضل الجعايبي في نصوصه المسرحية، من تطويع للعامية و استخراج الساخر و المبكي و المدمر و المضحك و المؤلم و المسعد ، لدليل قاطع على أن هذا ممكن لكن بشيء من الجهد طبعا، و ذلك ما يفرق بين الإبداع و أي شيء.
ليت صانعي لغة الإشهار والتنشيط بأنواعه و بعض أصحاب التعليقات المكتوبة و حوارات المسلسلات يرفعون عنا حصار العبارات العامية المنتقاة من أسفل سجلاتها و أضعف خيالها وأدنى مستوياتها الذهنية بدعوى إنها لغة اليوم، حتى لا نغرق في « العادي » - بالفرنسية طبعا- كما يقولون! وإذا كان محتوم علينا الموت بالكلام فليكن كموت بني هلال بكلام صائب و في محله، لا بالكلام الفارغ.


1 commentaire:

Big Trap Boy a dit…

فعلا يا أخ أزواو سومنديل أوراغ، لغتنا العاميّة المزيانة والثريّة تتعرض لعمليّة "تضريح" واسعة النطاق وبصفة خاصّة في مجال الإشهار