في البداية أود أن أعيد لقيصر ما لقيصر، فمبعث حديثي هذا سببه تدوينةصديقنا محمد الخامس بن لطيّف حول التعامل المعاصر مع الأغنية أو القصيد الشعبي انطلاقا من بالقاسم بوقنة مثالا، ونظرا لما وقف عليه محمد الخامس من موقع الوجع والجرح، وتعميما للفائدة، سأتوسع بعض الشيء في الموضوع بالتعرض لعديد التجارب الشبيهة لتجربة بوقنة والمعتمدة أساسا على استغلال ( مجازا و حقيقة) العديد من الترنيمات والأشعار المكونة لمدونة التراث التونسي بمختلف تلويناتها والجهات المنبثقة منها. ما يلفت الانتباه وما يحز في النفس هو أن نَخْلُص في نهاية المطاف على استنتاج مؤلم ألا وهو اعتبار هذه المدونة الشعبية بمثابة الحمار القٌصَيِّر، سهل الركوب ممن هب ودب، خاصة بعد إفلاس الأشكال التحديثية للأغنية التونسية والتي اعتمدت نمط الطقطوقة والمونولوج والأغنية الخفيفة المشرقية أو الشبابية المعاصرة.
وفي
الحقيقة تجربة العودة للترنيمات الشعبية تعود لبدايات المعهد الرشيدي منذ 1934 كرد
فعل لموجة الأغاني الهابطة التي اكتسحت المدن و تحديدا حاضرة تونس حيث سيطرت أغاني
ما يُعرف بسيدي مردوم التي كانت تردد في الأوساط الخليعة و دور الغناء والفصلات و
الحانات بأصوات حبيبة و فريتنة و لويزة و من شابههن، أغاني أخذت في الرواج بفضل
الإسطوانات والفونوغراف. و للتذكير فإن أغلب ما أنشدت المطربة الكبيرة صليحة مأخوذ
من ملزومات التراث الشعبي مثل من فراق غزالي و بخنوق بنت المحاميد ونا بكرتي شردت
مع العزابة وشرقي غدا بالزين. و لم يقتصر إعادة توزيع و تلحين و آداء هذه الأغاني
على النص الشعري بل وقع الإعتماد أيضا على الترنيمات الأصلية بِإدخال البناء
اللحني الذي يعتمد على التخت مع إفساح المجال للعازفين أحيانا بتقاسيم أو استخبار
في مقامات الأغنية أو آداء “أعراف” الملزومة في مقامات مختلفة . وقد تم الإتفاق
على تسمية هذه المقاربة للأغنية التراثية بـ “التهذيب” مما يُشرع لعديد الملحنين
أو الشعراء نسبة هذا التهذيب لهم و بالتالي كسب عائدات حقوق التأليف أو التلحين و
الأمثال على ذلك عديدة وما زالت متواصلة، منذ خميس الترنان إلى قاسم الكافي مرورا
بسعاد محاسن و زياد غرسة ، بنسب متفاوتة من النجاح و الفشل.
بقطع النظر على الجوانب
الأخلاقية المرتبطة بانتحال صفة الشاعر أو الملحن لأعمال هي بالأساس من الموروث
الجماعي فيه ما يُعرف صاحبها و فيها من اندثر اسم واضعها، أعتقد أن العودة للتراث
مسألة حيوية و هي الضامنة لاستمرار وجودنا من خلال ماضينا شريطة أن لا تقتصر هذه
العودة على نبش القبور و نهب الكنوز و لا فرق بين ناهبي المواقع الأثرية بحثا عن
“الماليات” و نهب التراث اللآمادي لغُنم آني سريع. و لعل الأمر يصبح مثيرا للتساؤل
والإنزعاج عندما يُنَظـِّرُ البعض من صبيان الموسيقيين لمقاربات و تجارب هي لا
تبعُد كثيرا عن الناهبين الدخلاء على مجال البحث في الموسيقى و التراث.
و
لإن تبدوا بعض التجارب في بداياتها حاملة لآمال وتطلعات تتوافق و ترقبات السامعين
وأصحاب الذائقة المرهفة، فذاك لا يعني البتة أن الفتح تَمَّ والتجربة بلغت
هدفها، فكما أثرى القدامى من عبقريتهم و نبوغهم ما توارثوه عن سابقيهم شعرا و
ألحانا و صورا و خيالا، نحن أيضا مطالبون بالإضافة التي تنبع من واقعنا
والتي تُشكل حلقة جديدة في سلسلة الإبداع. فتعلقنا بالتراث ما هو إلاَّ لحظة حنين
يكاد يكون رد فعل صبياني نتفاعل به أمام واقع متردي لايرضينا و لا يُشبع نهمنا،كما
هو شأن التراث الذي مهما تعلقنا به لن يرضينا و لن يروِ ظمأنا لتعبير نابع من
ذاتنا وواقعنا وعصرنا.
فالمبدع
اليوم أمام خيار الترديد و بيع السلع المغشوشة أو التجاوز و الإثراء و هذا التجاوز
لن يتم إلا بإغراق (Saturation) التشبع بكنه التعابير الموسيقية التراثية و الخروج منها
بصياغة تقطع مع المحاكاة مهما كان مثالها شرقيا غربيا أو تراثيا.
بوقنة، زهرة لجنف، عبدالرحمان
الشيخاوي و رضا عبداللطيف من نهج نهجهم، كلهم مطالبون بمواجهة تحدي التجديد و
الخلق باستيعاب الركروكي و العبيدي و الطرخاني و الطواحي و بورجيلة و الموقف و
الشهيدي و الصالحي و كل مهاوي وطننا ، والخروج من دوامة التكرار و الترديد سواء
أكانوا في ذلك صادقين أو عن مغالطة وسوء نية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire