mardi 21 juillet 2015

حق الثقافة "الشعبية" الوطنية في بث الصورة وحق المبدعين الوطنيين للنفاذ للبث.


الجزء الثاني

3-    حكاية الموسيقى والغناء
لكل منا، أبناء جيلي تمثـُّله وتصوره للموسيقى والغناء، ولكل بحسب جذوره وبيته الداخلي وبيئته مخزونه من الترنيمات والأنغام قبل أن تتدفق على مسامعه الأصوات والإيقاعات ومختلف الآلات. حتى سن التمدرس في قريتي النائية، لم يكن السجل السمعي المُغَنَّى، سواء بالحنجرة أو بالقصباية آلة النفخ البدائية أو زكرة "عبيد" الدويرات الطنافرة،  يتجاوز – في مخيالي الصغير- أكثر من بضع ترنيمات بما فيها هدهدات النسوة لأطفالهن أو ترنيماتهن من وراء مناسجهن، أو مهاجات الرعيان أثناء سروخهم أو خلال طقوس الجز.
غير أن في كل هذه الضوضاء الحنينية رسخت في ذاكرتي ظاهرتان متميزتان للغاية: أولهما، أغاني طقوس الحناء تؤديها بعض النسوة الآئي اكتسبن شهرة جعلت منهن نجوم كل الأفراح لدرجة تمكنهن من تحويل تلك الطقوس الفرحة الجذلى إلى مشهد تراجيدي يكون فيه للبكاء وللعويل  حضور رهيب يتملك من الجمع دون أن يقدر أي كان من الحد منه أو حتى محاولة التخفيف منه. في تلك المناسبات، تستدعي النسوة، تحت وطأة الشجن الخالص الذي تولده المنشدتين، شحنة من الحزن والأسى المُرَكـّز يستحضرن فيه كل من غاب من القدامى وكأنهن ينكرن على أنفسهن حق الفرح بدونهم. حلقات "المريدية"  تُتَقاسم فيها الأدوار بين العروس التي تسلم أمرها للمُحنِّية وأترابها وقريباتها ورافعات الشموع والمنشدتين والصفوف الثانية من النسوة الآئي ينتظرن إشارة استدعاء البكاء عندما تتحول إحدى المنشدتين من طبقة الإنشاد الطبيعي إلى طبقات الجواب فيتحول الصوت إلى ذبذبات كهربائية تسري في الأبدان مثيرة قشعريرة تتوجه مباشرة إلى الغدد الدمعية...وإلى يوم الناس هذا أحن بشكل خاص لهذه الطقوس أواصل البحث عن الفرصة الذهبية لتوثيقيها لما لها منأبعاد تتجاوز الزمن والأجيال لترتقي لنوع من القدسية الإنسانية.
أما الثانية فهيى مرتبطة بطقس الجحفة عشية خروج العروس من بيت أهلها متجهة لبيتها الجديد، بيت عريسها. فضلا على هيبة المشهد المرئي من لباس النسوة وحليهم ولباس الرجال والشباب بحواليهم الناصعة البياض وأسلحتهم المعلقة على أكتافهم، يستأثر المشهد السمعي خلال هذا "الترحال" بلب الحضور بداية بإيقاع الطبالة الذين يتقدمان الجحفة ويعدِّلان الميزان على خطى الجمل المقل للهودج بنغمات نص "الشهيدي" حتى يستقر الموكب في ساحة "الملاقاة" بالدويرات ، بينما يترقب الشباب على أحر من الجمر إشارة تحول الإيقاع إلى الجريدي أو تحديدا نص الميز ورقصة السلاح.أعتقد جازما، بالرغم أنه بالنسبة لي، ووقتها عبارة موسيقى لا وجود لها في معجمي ولا في خيالي، أن هذه الإيقاعات وما يرافقها من العزف على آلة الزكرة إضافة للرقصات المصاحبة لها، هي أول ما رسخ في خيالي من عالم الموسيقى.
أعتقد أن هذا المخزون البدائي لأبناء جيلي كل في جهته وفي عمق تاريخه الاجتماعي والبيئي، هو نقطة الانطلاق لما يكون بيته الداخلي بمختلف أثاثه المرئي والمسموع والمحسوس بمختلف الحواس، قبل تداخل العناصر الدخيلة على المحيط الأسري سواء كانت المدرسة أو الشارع أو أجهزة المذياع والتلفاز وغيرها من أدوات التواصل التكنولوجية الجديدة.
أما الدفعة الثانية من الأنغام والمربكة بعض الشيء، فقد كانت في عامي الأول من لمدرسة الفراكو آراب هناك في أقاصي الدويرات الحبيبة، بين المعلم التونسي والمعلم الفرنسي...فالمعلم الفرنسي جاء ضمن مهمة "تحضيرية" (Civilisatrice) طبقا لمهام مدرسة جول فيري الحاملة للواء الحضارة الفرنسية "التنويرية" ومن أولى هذه المهام تعليمنا، نحن صبيان ذاك المكان المقطوع عن العالم، النشيد الوطني الفرنسي ( La Marseillaise) حتى وإن اضطر لقوة عصا الزيتون التي تلهب سيقاننا وأكفنا !!! وبين لا مارسياز بعجمتها الفرنسية وعجمتها النغمية و نص الشهيدي أو الطواحي  مسافات لا تقاس بوقت المسير أو أيام أو الأودية والهضاب.... لكن مع هذا وتجنبا للسع مشغيط الزيتون رسخت لا مارسياز وكأنها أول عملية اغتصاب ذهني... في حين كان المعلم التونسي العكاري يرد الفعل بتحفيظنا نشيد "حيوا العلم"، لكن رغم صدق حيوا العلم وشرعيته لم يرسخ من نغمه شيء في حين رسخت لا مرسياز إلى يوم الناس هذا!! هل يعود هذا لعبقرية "روجي دو ليل" أم لضحالة ملحن حيوا العلم....
يتبع

Aucun commentaire: