حتى إلى زمن غير بعيد، كنت متشبثا شرسًا بمسألة التراث
الغير المادي والذاكرة الجماعية وبضرورة الحفاظ عليها من التلف والنسيان وتسخير
القنوات الملائمة لتنميتها وإعطائها مجالات الظهور على الحوامل والوسائط الإعلامية
المعاصرة، لدرجة أن اختزل العديد صورتي بنوع من "طبَّال الحومة" أو "أمين
الطبابلية"، ورغم ما تحمله هذه الصورة من الأبعاد السلبية والدونية، ما كنت
لأنزعج منها وربما بالعكس كنت أشعر بكثير من السعادة والشرف أن يلتصق اسمي بهامات
إبداعية شعبية ذات أبعاد خرافية.
غير أنه وخاصة بعد أحداث ديسمبر 2010/ جانفي 2011 وما
انجر عنها من تغيرات ظاهريا، وأهمها حرية التعبير سرعان ما تبين أن الأمور بقيت
على ما هي بالنسبة للرؤى والتصورات والفهم وتاريخ البلاد وعلاقة العباد بها
وعلاقتها ببقية العالم وبالحداثة. وكان طبيعيا أن تطرح مسألة التراث الغير المادي
سواء رسميا أو إعلاميا، ومع طرحها تقشع كل ذلك الضباب القديم من التبريرات التي
سادت قبل 2011. مما أجبرني على إعادة النظر في عديد المسلمات خاصة وأنا بصدد جمع
شتات كتاباتي المختلفة في هذا المجال قصد تأليف يتعرض بالتعريف والدرس والشرح
لمجمل ما وقع الاتفاق على تسميته بالتراث الشعبي التونسي.
ومن أهم ما توقفت عليه، من خلال ملاحظات عرضية تتصل
أساسا بمشاغلي المهنية السابقة – وهي هندسة الإنشاءات المعدنية- هو أن كل نشاط
إنساني مهما كان نوعه وطبيعته يرضخ لقانون "التقادم" الذي يهدده بالفناء
والاندثار، ولنقيضه قانون التجدد والتطوير الذي يكسبه عمرا جديدا كما يكسب ما يَـنْـتُـج
عن ذلك النشاط البشري قيمة مضافة جديدة هي إلي تُحدد حتمية انتهاء المُنتج القديم
وطرق إنتاجه وأساليبه وانقضاء صلاحية المعارف المتصلة به لتحل محله معارف جديدة
محينة تتطابق والمُنتَج وينتج عن هذه المعارف معارف فرعية يتقاسمها الناس تقبلا أو
نقدا أو رفضا ينتج عنها بالتأكيد تغيرات كبرى لذائقتهم.
وتبعا لهذا، يبرز جليا أن أن الحداثة هي حركة بشرية في
دوافعها وفي نتائجها، وإن ما يحصل من تغيرات في أنماط الإنتاج والمنتجات ليست سوى تظاهراتها
الخارجية للتعبير عن المرور من نمط إنتاج
تقليدي يفقد طاقة مقاومة التقادم، إلى نمط إنتاج حديث يحمل طاقات جديدة للتحيين
والدوام النسبي.
وبطبيعة الحال لا تمر هذه العملية دون صراع بين دعاة
النمط القديم والنمط الجديد، صراع يدوم ما يقتضيه انتشار المعارف الجديدة أو المحينة
بين الناس منتجين للمنتج أو مستعملين كانوا أو مستهلكين.
ولإن انحصرت
عملية التحديث في الأزمنة القديمة – أي ما قبل التنوير وتحرر العقل البشري من
الخرافة- بين سلالات من الحرفيين يتوارثون أسرار المنتجات (المادية وغير المادية)
وطرق الإنتاج الشيء الذي حال دون انتشار المعارف بين الناس وخاصة منع من تداولها
بحرية فكر نقدي، فإن مرحلة ما بعد التنوير مكّنت تحويل المعارف من باب المحفوظ
والمنسوخ والحاكي إلى باب المشروح والمعلل والمحسوب بمختلف القواعد الفيزيائية
والرياضية والبيولوجية إضافة إلى ما برع فيه الرسامون من استعادة لخصائص الأشياء
والأحياء والجماد والأصوات ومختلف الظواهر.
ولعل انتشار المعارف طباعة وتدريسا وتدوينا ونقدا هو ما
ساهم في تسارع نسق التحديث وتطوره بتحرر الفكر البشري التجريبي بعد أن تحرر من
القيود الدينية على امتداد قرون من
الصراعات مع قوى الكنيسة وكهنوتها.
يتبع
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire