كنت أشرت في كتابي حول سيرة المزود في تونس،
عن تأثير الأشكال الفرجوية الأوروبية، وانتشار قاعات العروض"المواجهتية"
البناءFrontal)) على التعابير
التقليدية أشكالا وفضاءات ووظيفة.
تشترك تونس والجزائر والمغرب، حتى إلى ما بعد منتصف
القرن العشرين في أشكال الفرجة التقليدية العمومية المبنية على مفهوم الدائرة أو "الحلقة"
التي تحدد مساحة تحرك مؤثثي العرض سواءا كانوا حكواتيين أو منشدين أو بهلآوانيين
أو من مروضي الأفاعي أو القردة، في دائرة يتحدد قطرها بما يسمح به الفضاء العمومي
من ناحية وما تجلبه الفرجة من مشاهدين وما تتطلبه الفرجة من مساحة لتحرك منفذي العرض.
وفضاء الحلقة هو الفضاء العمومي الثالث
لأشكال الفرجة العمومية بعد فرجة المقاهي سواء كان صاحب الفرجة حكواتيا أو منشدا
وعازفا موسيقيا، وفرجة خرجات الزوايا الصوفية وما يتبعها من الطقوس المتوالية سواء
كانت في الطريق العام من مسجد أو مقام إلى زاوية، أو في صحن الزوايا أو داخل إحدى غرفها.
وإذا كانت الفرجة العمومية في المقاهي أو فرجة الخرجات
الصوفية فيها نوع من الإلتزام الذي "يجبر" المنخرط فيها للمشاهدة بحد
أدنى من الاستهلاك لما يباع في المقهى من مشروبات من ناحية وأن يكون من أتباع تلك
الطريقة، فإن فرجة الحلقة لا عقد فيها يجبر المتفرج بأي مقابل مادي أو لا مادي.
فالفرجة مبنية على علاقة طلب الإحسان والصدقات مقابل "إبداع" ما: غناء
أو حكيا أو براعة بدنية أو ألعاب سحرية أو غيرها.
أسماء كثيرة وشهيرة علقت في ذاكرة صبانا من الصعب أن تمّحي لما ارتبط بها من أشياء كانت بالنسبة لنا من الخوارق. بين عم جلول الذي يستخرج الأوراق المالية من وعاء قصديري أجوف لا قاع ولا غطاء له، أو "الحايرة" الذي كان يعاقب بطنه بضربها بصخرة صلبة لا لشيء إلآ لأنها كانت كثيرة التشهي والشهاوي لذاك أسماها بالحائرة، أو الثنائي المغربي بائع زهم النعام ذلك الدوتء العجيب لكل الأمراض.... أو عازف الكمنجة سلآك الواحلين....
في بداية الخمسينات وتحديدا في مرحلة المواجهة بين
الحركة الوطنية الممثلة بالحزب الحر الدستوري التونسي والسلطات الاستعمارية، انتشر
في الساعات العمومية نمط جديد من "المقاومة الثقافية" المتمثلة في ترديد
بطولات المقاومة المسلحة والفلاقة للقوات الفرنسية من خلال أشعار تنخرط في امتداد
لأشعار المقاومة الشعبية إبان الاحتلال الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر، أو
فيما بعد في سنة 1911 إبان الاحتلال الإيطالي لليبيا وأحداث الجلآز أو في 1915 عند
اندلاع ثورة الجنوب وغيرها من الأحداث.
ومن خاصية هذه الأغاني والأشعار كونها تخفي أو تتستر على
اسماء مؤلفيها لأسباب أمنية وقد لاحظت ذلك في أغلب أشعار سنوات 1881 وما بعدها. في
حين يصر شعراء آخرون على إمضاء أشعارهم كالشاعر الكبير محمد الصغير الساسي والحبيب
عبد اللطيف أو الهادي بن سليمان أو الفيتوري تليش أو عبد الرحمان الكافي.
ومن الأحداث التي حظيت باهتمام الشعراء والمرددين
والمشاهدين مقتل الزعيم النقابي فرحات حشاد من خلال قصيدة:" كيف جانا خبر
المامات قصدنا ربي في فرحات" أو نفي الزعيم الحبيب بورقيبة من خلال
قصيدة:" بالله يا طيارة البيضاء بورقيبة وين هزيتيه
هزيتيه
صبي صغير رجع الشيب منڤر فيه"
أو مسألة الاستقلال من خلال قصيد مطلعه:
بورقيبة والبي اتكلم خبر طاهر بن عمَّار
قال نايا موش مسلم حتى يخرج الاستعمار
وكان هؤلاء "المنشطين" والمهرجين الشعبيين محل
مطاردة قوات الأمن الفرنسية في بداية الخمسينات
وتواصلت لما بعد الاستقلال لتحولهم إلى "وسيط" إعلامي شعبي في
الخلاف الدائر بين الشق البورقيبي والشق اليوسفي، إذ أن كثير من الشعراء انخرطوا
في الصراع لكل منهم الشق الذي يناصره.
مع احتداد المطاردات والمتابعات وتضييق الخناق على "مهرجي"
وغناية وبهلواني الساحات العمومية، تراجعت هذه الأشكال العمومية بصورة كبيرة إلى
أن انقطعت بانقطاع التواتر وموت ذلك الجيل من الفنانين الشعبيين موتا ماديا
ولامادي بعدم الاهتمام بمنتوجهم من الأشعار والحكي الشعبي والبراعات المختلفة، في
حين سجلت المغرب ساحة جانعالفناء بما تعج به من الإبداع البشري ضمن التراث الإنساني.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire