كان عام 1951 زمَّة، وغالبا ما يقترن عام الزمَّة بزحف أسراب الجراد القادمة من الجنوب شرقا و غربا، يدفعها شمالا انعدام النبات. ما من شك أن زيارة الجراد عندما تكون الأوضاع الزراعية رديئة، هي نكبة على نكبة، فهو يأتي على الأخضر واليابس عند تقدمه، وفي أغلب الأحيان يصل لمناطق الجنوب التونسي في نهاية مرحلة الزحف (المرَّادي) و بداية طيران أسرابه لدرجة أنه يشكل سحابة كثيفة.ء
أثناء النهار يحاول الناسقدر الإمكان إزعاج أسراب الجراد بهدف تأخير زحفه وحطه على أشجار التين والزيتون، فيحدثون جلبة و ضوضاء بكل ما الأدوات المعدنية و حتى الطبول إذا توفرت فضلا على الصياح و رمي الحجارة بالمقاليع المصنوعة من الحبال.ء غير أن هذا المجهود مهما تكاتفت فيه الهمم والعزائم يبقى عبارة عن معارك خاسرة في الأخير، فأعداد هذه الحشرة الفتَّاكة تُفوق الملايين كما أنها مبرمجة بصفة خاصة لاستهلاك كل ما تحط عليه من النباتات وجذوع الأشجار و حتى الخشب الجاف والقفاف والحبال المصنوعة من ألياف الحلفاء والنخيل أو الغرائر من شعر الماغز.ء
بقي لي ذاك المشهد محفورا في الذاكرة، لا أدري هل كان جزءا من لعب الصغار أم معركة حامية الوطيس نخوضها مع عدو يفوق طاقة البشر فيستسلم بعد عناء لا جدوى منه....ء
كان الفصل أواسط الربيع ، و مما أعان الجراد على التقدم قلة هبوب الرياح، في حين أن ذلك الفصل سيما في أعوام الزمة غالبا ما تشتد فيه الرياح والعواصف الرملية. بعد مواجهة اليوم الأول وعند الزوال ، أوى الأهل إلى الغيران ، لاستعادة قواهم و تناول بعض الخبز والزيت مع حبَّات من الزيتون الجاف و ربما بعض التمر و شرائح التين ، إذ لم تتفرغ النسوة لطهي أي شيئ .بعد أن تدارس القوم الوضع، خلدوا لقيلولة .ء
في آخر الظهيرة هب كل من الدشرة لجمع الأكياس والغرائر، البعض يحمِّل على الجمال و النسوة تحمِّل على الحمير والبغال. فهمت أن الشوط الثاني من المواجهة ستدور رحاها ليلا وفي أجنة الخنقة (بالقاف البدوية). والخنقة وادٍ عميق بين جبلين تتابع فيه سدود محكمة البناء تتراكم فيها التربة(النُّقل) الصالحة لغرس الزياتين والكروم والتين، و ربما كان لتداول ظلال الجبلين على تلك الأجنة في الصباح و في الظهيرة، جعل من أشجاره أكثر نظارة ونموا.ء
وصلنا الخنقة بعد الغروب ببعض الوقت، و بدأ الظلام يٌسدل خيوطه على المكان، وما أن اقتربنا من الأغراس حتى وجدناها مثقلة بأسراب الجراد و قد انطلق منها تكتكة آلاف المقصات القاضمة تلتهم الأوراق والبراعم التاشئة رغم الجدب. لقد كان ذلك الصوت أشبه لصو عيدان الحطب في سامور النار...ء
و ما إن عم الظلام المكان حتى بدأ الأهل في ملء الأكياس بالجراد المعلق في الأغصان و على وجه الأرض ، وكلما امتلأ كيس ، تمَّ تحميله على ظهور الدواب. هكذا تواصلت المواجهة قرابة الأربع ساعات مع الحسرات التي لم تبدي أية مقاومة أو محاولة للطيران.ء
في الصباح البكر أوقدت النار ووُضعت فوقها قدور ضخمة من الطين بعد أن مُلئت بالماء الذي ما إن بأ بالغليان تسارعت النسوة بفتح الغرائر والأكياس وصَب ما وقع جمعه البارجة من الحشرات....عملية طبخ الجراد لا تدوم طويلا شأنها شأن القمبري أو جراد البحر ، بعد بضع دقائق يتم إخراجها من القدور ليتم تجفيفها ، غير أن هذه العملية لا تخلو من مفاجآت "مُرعبة" بعض الشيء إذ لا تخلوشحنات الجراد المستخرجة من القدور من آفات أخرى كالأفاعي و الثعابين والعقارب و الجرذان البرية، غير أن ذلك لم يكن ليثني من عزم القوم من اعتبار ما وقع تحصيله بعد عناء و تعب غير قابل للاستهلاك و الإهداء للأقارب و الأهل ممن لم تنزل عليهم هذه الآفة....ء
كانت تلك المناسبة أول مرة اكتشف فيها مذاق و لذة الجراد، طغم بقي راسخا في ذاكرة الطفل لسنوات إلى أن عاودت جحافل هذا الجيش الجرَّار هجمتها على بلادنا ووصلت طلائعه إلى العاصمة في عام 56، كما وصلت كمياته المطبوخة عن طريق شركة بالشاوش للنقل من الجريد وانتصب به الباعة في ساحة باب منارة منادين "هالمقمَّح هاو الدمومي" و المقصود بهذه التسميات الجرادة الأنثى والتي امتلأ بطنها بيضا قبل أن تتمكن من حقنه في الأرض، أمَّا الذكور فهي غير قابلة للاستهلاك. و كنت أشتري من الباعة كل صباح قرطاسا من الجراد بخمس فرنكات (دورو) استهلكه كلمجة أصبح يشاركني فيها الكثير من زملاء الدراسة الذين دربتهم على طريقة استهلاكه باقتلاع الرأس و المعدة المملوءة ببقايا العشب والأجنحة و الأرجل... ربما يبدو هذا "السلوك الغذائي" من الأمور الغريبة في أيامنا هذه، لكنه كان من الأشياء العادية أو من الأكلات الستثنائية لما يتوفر فيه من البروتيينات فضلا على لذة طعمه. ء
في آخر مرة تعرضت تونس لهجمة الجراد في أواسط الثمانينات، لم يتمكن الناس من استهلاك الجراد بسبب المبيدات الحشرية التي وقع استعمالها لمقاومته، مبيدات قضت أيضا على حشرات أخرى نافعة كالنحل.ء
أثناء النهار يحاول الناسقدر الإمكان إزعاج أسراب الجراد بهدف تأخير زحفه وحطه على أشجار التين والزيتون، فيحدثون جلبة و ضوضاء بكل ما الأدوات المعدنية و حتى الطبول إذا توفرت فضلا على الصياح و رمي الحجارة بالمقاليع المصنوعة من الحبال.ء غير أن هذا المجهود مهما تكاتفت فيه الهمم والعزائم يبقى عبارة عن معارك خاسرة في الأخير، فأعداد هذه الحشرة الفتَّاكة تُفوق الملايين كما أنها مبرمجة بصفة خاصة لاستهلاك كل ما تحط عليه من النباتات وجذوع الأشجار و حتى الخشب الجاف والقفاف والحبال المصنوعة من ألياف الحلفاء والنخيل أو الغرائر من شعر الماغز.ء
بقي لي ذاك المشهد محفورا في الذاكرة، لا أدري هل كان جزءا من لعب الصغار أم معركة حامية الوطيس نخوضها مع عدو يفوق طاقة البشر فيستسلم بعد عناء لا جدوى منه....ء
كان الفصل أواسط الربيع ، و مما أعان الجراد على التقدم قلة هبوب الرياح، في حين أن ذلك الفصل سيما في أعوام الزمة غالبا ما تشتد فيه الرياح والعواصف الرملية. بعد مواجهة اليوم الأول وعند الزوال ، أوى الأهل إلى الغيران ، لاستعادة قواهم و تناول بعض الخبز والزيت مع حبَّات من الزيتون الجاف و ربما بعض التمر و شرائح التين ، إذ لم تتفرغ النسوة لطهي أي شيئ .بعد أن تدارس القوم الوضع، خلدوا لقيلولة .ء
في آخر الظهيرة هب كل من الدشرة لجمع الأكياس والغرائر، البعض يحمِّل على الجمال و النسوة تحمِّل على الحمير والبغال. فهمت أن الشوط الثاني من المواجهة ستدور رحاها ليلا وفي أجنة الخنقة (بالقاف البدوية). والخنقة وادٍ عميق بين جبلين تتابع فيه سدود محكمة البناء تتراكم فيها التربة(النُّقل) الصالحة لغرس الزياتين والكروم والتين، و ربما كان لتداول ظلال الجبلين على تلك الأجنة في الصباح و في الظهيرة، جعل من أشجاره أكثر نظارة ونموا.ء
وصلنا الخنقة بعد الغروب ببعض الوقت، و بدأ الظلام يٌسدل خيوطه على المكان، وما أن اقتربنا من الأغراس حتى وجدناها مثقلة بأسراب الجراد و قد انطلق منها تكتكة آلاف المقصات القاضمة تلتهم الأوراق والبراعم التاشئة رغم الجدب. لقد كان ذلك الصوت أشبه لصو عيدان الحطب في سامور النار...ء
و ما إن عم الظلام المكان حتى بدأ الأهل في ملء الأكياس بالجراد المعلق في الأغصان و على وجه الأرض ، وكلما امتلأ كيس ، تمَّ تحميله على ظهور الدواب. هكذا تواصلت المواجهة قرابة الأربع ساعات مع الحسرات التي لم تبدي أية مقاومة أو محاولة للطيران.ء
في الصباح البكر أوقدت النار ووُضعت فوقها قدور ضخمة من الطين بعد أن مُلئت بالماء الذي ما إن بأ بالغليان تسارعت النسوة بفتح الغرائر والأكياس وصَب ما وقع جمعه البارجة من الحشرات....عملية طبخ الجراد لا تدوم طويلا شأنها شأن القمبري أو جراد البحر ، بعد بضع دقائق يتم إخراجها من القدور ليتم تجفيفها ، غير أن هذه العملية لا تخلو من مفاجآت "مُرعبة" بعض الشيء إذ لا تخلوشحنات الجراد المستخرجة من القدور من آفات أخرى كالأفاعي و الثعابين والعقارب و الجرذان البرية، غير أن ذلك لم يكن ليثني من عزم القوم من اعتبار ما وقع تحصيله بعد عناء و تعب غير قابل للاستهلاك و الإهداء للأقارب و الأهل ممن لم تنزل عليهم هذه الآفة....ء
كانت تلك المناسبة أول مرة اكتشف فيها مذاق و لذة الجراد، طغم بقي راسخا في ذاكرة الطفل لسنوات إلى أن عاودت جحافل هذا الجيش الجرَّار هجمتها على بلادنا ووصلت طلائعه إلى العاصمة في عام 56، كما وصلت كمياته المطبوخة عن طريق شركة بالشاوش للنقل من الجريد وانتصب به الباعة في ساحة باب منارة منادين "هالمقمَّح هاو الدمومي" و المقصود بهذه التسميات الجرادة الأنثى والتي امتلأ بطنها بيضا قبل أن تتمكن من حقنه في الأرض، أمَّا الذكور فهي غير قابلة للاستهلاك. و كنت أشتري من الباعة كل صباح قرطاسا من الجراد بخمس فرنكات (دورو) استهلكه كلمجة أصبح يشاركني فيها الكثير من زملاء الدراسة الذين دربتهم على طريقة استهلاكه باقتلاع الرأس و المعدة المملوءة ببقايا العشب والأجنحة و الأرجل... ربما يبدو هذا "السلوك الغذائي" من الأمور الغريبة في أيامنا هذه، لكنه كان من الأشياء العادية أو من الأكلات الستثنائية لما يتوفر فيه من البروتيينات فضلا على لذة طعمه. ء
في آخر مرة تعرضت تونس لهجمة الجراد في أواسط الثمانينات، لم يتمكن الناس من استهلاك الجراد بسبب المبيدات الحشرية التي وقع استعمالها لمقاومته، مبيدات قضت أيضا على حشرات أخرى نافعة كالنحل.ء
1 commentaire:
أكبر مشكلة نعانيو منها سي علي إلي كل جيل يحتفظ بذاكرتو وتجربو و هو ما يساهم في فقر معرفي أكثر خطورة من هجوم متع الجراد.. بوست عجبني
Enregistrer un commentaire