لقد تعودنا الاعتقاد ،منذ زمن أن نكون نحن سكان الضفة الجنوبية للمتوسط متقبلين "سلبيين " للتأثيرات القادمة إلينا من الشمال شأنها شأن ريح السماوي أو البراني لدى البحارة، و لعل هذا الاعتقاد الراسخ هو من باب المقولة الشهيرة ولع المغلوب بالغالب . وتبعا لهذا يصبح من الطبيعي أن تكون قراءة بعضهم للتحولات التي شهدها المجتمع التونسي في الستينات و السبعينات، و خاصة منها حركة الشباب، ناتجة تحت تأثير أحداث ماي 1968 الفرنسية و أفكارها السياسية بالدرجة الأولى، و كأنه من البديهي أن لا تحدث تطورات مماثلة في بلادنا بصورة مستقلة لما حدث على الضفة الأخرى . كما يحلو للكثير وصف البعض من شباب ذاك الجيل في شيء من السخرية «بالثمان وستينيين ». لقد تعرضنا في مقال سابق لما كان لذاك الجيل من الخصائص التي هيأته للعب دور متميز في تصور و اقتراح الجانب المهم من البنية الثقافية التونسية للثلث الأخير من القرن العشرين. و لربما كان لتلاقي طلائع العمل الثقافي بالطلائع النشطة في المجال الفكري السياسي المحسوب على الحساسيات التقدمية، في بعض المناسبات الهامة و نقاط التقاطع أو حول أعمال إبداعية، الأثر المحدد في خلق تناسق الطاقات ( Synergies ) بصورة مستقلة مولدة حركية من التنافس و التجاوز و التجديد لا في المجال الثقافي فحسب ، بل يشمل أيضا الجوانب الاجتماعية و الفكرية و السياسية. و لعل إغفال المحللين الكلاسيكيين لما للحركات الاجتماعية الجديدة و ما لجوانبها الثقافية من أهمية في التحولات الاقتصادية و السياسية، و اقتصارهم على التحليلات السياسية و الاقتصادية البحتة، يفسر عدم الاهتمام بدراسة تلك المرحلة المهمة بشكل جاد ، و اقتصار الكثير على جوانب النوادر و الذكريات التي يغلب عليها الطابع الذاتي.
لقد كان للحركات الاجتماعية الجديدة الثقل الأكبر في النقلة النوعية التي شهدها العالم الغربي و هو على مشارف نهاية السنوات « الثلاثين المجيدة »، من ساحات و حدائق جامعات كاليفورنيا إلى نانتار و أحياء لندن و جامعات روما و بون و برلين ستتقارب تطلعات شباب ما بعد الحرب المختلف تماما عن جيل آبائه، ليتولد عنها أضخم مد اجتماعي و ثقافي يحمل في أحشائه قوة هائلة من التغيير الغير منتظر و التطور المذهل. في هذا السياق يقول أ. نقري و م. هاردت*: " و لقد قدمت عدة تحاليل لظواهر " الحركات الاجتماعية الجديدة " خدمات قيمة عند تأكيدها على الأهمية السياسية الكبرى للحركات الثقافية، معارضة الرؤى الاقتصادية الضيقة التي تقلل من أهمية معناها. على الرغم من هذا، تبقى هذه التحاليل محدودة في حد ذاتها لأنها ، و على غرار التحاليل المعارضة لها، تديم فهما ضيقا للاقتصادي و الثقافي. بل أكثر من ذلك لا تعترف بما للحركات الثقافية من قوة اقتصادية عميقة، بعبارة أخرى التداخل المتنامي أكثر و أكبر للظواهر السياسية و الثقافية.
لقد كان مشروع التحديث الذي جاء مع الاستقلال في تونس و في المغرب العربي عموما يرتكز أساسا على المنظومة التربوية و جعل من تعميم التعليم الأداة المعتمدة للنهضة و الخروج من التخلف، فكان من الطبيعي أن تبرز على الساحة الاجتماعية أجيال لها من الحلم و التطلع لحياة على نقيض حياة الأجيال السابقة ، كما كان من البديهي أن يكون الحلم و الحياة الجديدة في ذهن ذلك الجيل من صنعه و إنجازه بدون وصاية و بكل حرية، فكانت الوجهة الثقافية المنفذ الوحيد المتاح لممارسة عملية تحقيق الكيان و إثباته كخطوة أولى نحو امتلاك القرار. بينما كان – على المستوى الظاهري - وراء تطلعات الشباب الغربي إحساس حاد بالبؤس و التعاسة المادية و العاطفية في فترة كانت الأرباح الرأسمالية في أوجها، كان شباب جنوب المتوسط نسبيا محظوظا من الجانب المادي في فترة كانت فيها بلداننا محدودة الموارد، و كانت تطلعاته من باب المطالبة بحق و شرعية الكيان و الوجود. هذه التطلعات ستشكل حافزا هائلا لجرأة في مجال المبادرة الثقافية و التجاوز الإبداعي سنحاول التوقف من حين للآخر على بعض محطاته
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire