في مقالها الجيد لهذا اليوم"رسالة جِدُّ موضوعية لعمَّار"، تختم الصديقة الدكتورة ألفة يوسف بهذه الفرضية:
"لنفرض جدلا أننا قُصَّر ونجهل مصالحنا، وعليه وجبت حمايتنا، وِلما لا معاقبة البعض منَّا؛ ألا يحق لنا معرفة مسببات عقابنا و شرعيتها. لِم لا تُعقد ندوة صحفية لشرح كل هذا؟ لكُـنَّا لكم ممنونين، والبلاد أيضا،إذ يبدو وكأنكم لم تقرؤا البتة "بياجي" ولا "لاكان" ولا حتَّى "زيزك"، بيد أن الطفل المُعاقب دون معرفة خطئه يمكن أن يصبح خطرا للغاية عند رُشده...غير أنه يبدو أن المستقبل لا يهمكم كثيرا يا عمَّار العزيز...."
بهذه الفرضية تضع الدكتورة ألفة يوسف إصبعها على المقتل، و سأحاول بدوري تبيين أن ما ذهبت إليه الصديقة، بشيء من الاستغراب والإنكار والاستنكار، هو موضع الدَّاء الذي بدأ ينخر بلداننا تدريجيا مّنذ فقدانها سيادتها على إثر الحملات الاستعمارية، واستفحل ولربما زاد أكثر حدة ليصبح من قبيل "نمط الإنتاج" على غرار النمط الرأسمالي أو الأسياوي .
تعتمد قراءة جزء هام من نخبنا السياسية و العسكرية والفكرية منذ بداية المواجهة مع الحداثة الغربية بمختلف أشكالها ، لحالة تقهقر و تخلف بلداننا و بالتالي قابليتها للاستعمار، لابتعاد المجتمع والأفراد عن السراط القويم للممارسة الدينية بالنسبة للتخب التقليدية، من جهة، وللتذرية الاجتماعية و تفشي الجهل والتخلف المادي والمعنوي والتمسك بالعصبيات التقليدية ، بالنسبة للنخب الاصلاحية من جهة أخرى.
في كلا الموقفين هناك اتفاق تام على تحميل المجتمعات وحدها أو على الآقل في جزء كبير من المسؤولية، تبعات قرون من عدم الاستقرار السياسي ، وصدمة مواجهة الحداثة. و لم تكن المآخذ الموجهة لأشكال النظم الاستبدادية التي كان يغلب عليها طابع "الغربة" عن بلداننا بحكم أصولها "العثمانية" معلنة إلا بكثير من الاحتشام أو لأنها في بعض الأحيان كانت تُملى تحت ضغوطات القوى الغربية (قضية التنظيمات و الدساتير و عهد الأمان و ما شابهها)
إن حالة القطيعة التي كانت تميز علاقة الحاكم بالمحكوم والنخب و"العوام" تزامنت لعقود و لقرون بعدم الثقة والريبة المستمرة، و هذا يعود لطبيعة " أجنبة" الحكم الذي كان يعتمد على أشكال العداوات وأبغضها لاستمالة فريق دون آخر يعزز به صفه و يبيح له القيام بكل أشكال الحملات الانتقامية مكافأة له للمولاة.
لقرون خلت لم تأخذ مسألة بناء الدولة "الوطنية" قيد أنملة في تفكير و النخب الحاكمة ، سياسية كانت أم عسكرية أو شرعية و دينية .
لقرون طويلة اعتمدت هذه النخب مقولة "فرق تسد" لضمان تواصل سلالتها على سدة الحكم ، و تواصل امتيازات من يدور في فلكها ممن عاهدوها الولاء من المماليك المرتدين والمرتزقة وأعوان القنصليات الأجنبية وناهبي الخزية والمرابين والمغامرين...
لقرون أُستبطنت العداوات الخرافية والاسطورية بين أجزاء المجتمع تغذيها خصومات الامراء على العرش، حسينية وباشية مخلفة شرخا هائلا قسم البلاد و القرى والمدن لصفين متناحرين يحترس كل صف من الآخر...
لم يدر بخلد أحدهم من "لحاسي الأقلام" وأصحاب العمائم والبدلات العسكرية أن في هذا الوطن و أهله بقايا حس يولد لديه شعورا بالانتماء لتونس يجعله يهب صفا واحدا يرمي جانبا العداوة القديمة بين يوسف و شدَّاد وراء زعماء المقاومة غداة 12 ماي 1881....
لم تكن السياسة الاستعمارية بمدارسها الفرانكو آراب لتغَير من سلوكيات الحكم السابق، بل ربما تفننت فيها أكثر لتزيد سياسة الموالاة طابعا "علمانيا" و "حداثتيا". فالمدرسة ستكون الآداة المثلى لإنتاج توالد حاجيات النظام الاستعماري لنخب تدين بالولاء له و تعمل على بقائه وفي آن واحد تتشيث بالامتيازات التي تحصل عليها مقابل العهد على الولاء.
من مسلمات نخب الاستقلال، مسلمة ذهنية فكرية فحواها : هذا البلد لم ينتج شعبا و أمة بمفهوم الانتماء لوطن، كل ما في الأمر هو "غبار من الأفراد" « Poussière d’individus »
أمَّا المسلمة الثانية فهي عملية و ناتجة عن الأولى: بحكم أن المجتمع ليس إلا غبار من الأفراد، ليس بالإمكان اعتباره راشدا، و من باب أولى وأحرى أن تكون الأفراد قاصرة أو ربما أقل رشدا!!!
من الناحية السياسية، واعتمادا على هذه المسلمتين، و نظرا لتداعيات الخلاف اليوسفي البورقيبي الذي سيكون "الحالة المرضية" لظروف مخاض وولادة الدولة الجديدة، تبعات رهيبة ستعيد للشرخ الخرافي استعادة نشاط على نفس خط القطيعة جغرافيا و سكانيا. هذا المعطى الذي سيكون الحسم فيه بقوة السلاح بمشاركة قوة المستعمر، سيشرع لمواصلة علاقة عدم الثقة والريبة بين السلطة الجديدة والمجتمع، ستكون المحاكمات السياسية المختلفة والمتتالية المبين الجلي لها.
يتبع