تضل العلاقة بين النخب إزاء التراث و عناصر الذاكرة الشعبية على وجه الخصوص في مجتمعاتنا العربية، علاقة فيها الكثير من الذاتية و العاطفة و التشنج بالمعنى السيكولوجي، و عدم الفهم المتبادل. و هذه العلاقة في الواقع تترجم حالة التذبذب مع الذات و أبعادها و مع الأنا و مكوناته، في ظروف تتسم بكثير من الولع بمظاهر الحداثة التي فرضتها حملات الغزو التجاري و العسكري و السياسي طيلة قرون المد الغربي الاستعماري، و أخيرا المد الاقتصادي و الثقافي خلال النصف الثاني من القرن الماضي. و لعل هذا تأتى مما كان يفصل بين النخب و العامة من هوة عميقة و انعدام التواصل و كذلك جانب من احتقار النخب للعامة و تحميلها أسباب التقهقر و التأخر.
لقد ساد في بلادنا خلال القرون الماضية حالة من القطيعة بين النخب -تقليدية كانت أو عصرية - و بقية السكان ،قطيعة يترجمها عدم اهتمام النخب و إهمالها الطبيعي للمعارف الشعبية و مهارات حرفها و تعابير فنونها. و هذه القطيعة المزدوجة بين النخب السياسية و النخب الفكرية و الدينية من جهة، و بقية السكان من جهة أخرى، ستشكل أهم العوامل المساهمة بصورة فعالة في تذرية البنية الاجتماعية للبلاد و الدفع بالسكان قهرا لمواقعهم التقليدية المتمثلة في العصبيات البدائية قبلية كانت أم طرقية. و أخذ اتجاه التذرية هذا نسقا أكثر سرعة مع الاحتلال الفرنسي بتحطيمه ما تبقى من الأسس الاقتصادية الهشة للبلاد، بذلك تتم التذرية الاقتصادية و تتأكد التذرية الثقافية. و لعله يبدو في غير محله، و الحالة تلك، الحديث عن مفهوم للثقافة بمعناه المتداول اليوم نظرا لغياب الدولة الوطنية و لأن العناصر المكونة للثقافة من آداب و فنون و إنتاج فكري و علمي لم تتوصل إلى درجة من التكامل و الانسجام و التوليف لتكون كلا مشتركا بين كل التونسيين – نخب و عوام - ليجدوا فيه خصائصهم الهووية. في الواقع إن تعابير النخب كانت منحصرة في حلقات منتجيها و متداوليها الضيقة، لا ترمي البتة للنفاذ لبقية الناس، و تعابير العامة كانت تُتًصور تنتج و تبث بفعل ما يعتمل داخلها و بفعل التأثيرات المتبادلة مع تعابير أخرى بصورة عفوية في ديناميكية و حركية أفقية في الأسفل، أما حركة التبادل و الإثراء من تحت-العامة- إلى أعلى- النخب- و من أعلى إلى تحت فهي منعدمة. نحن أمام منظومتان متباينتان تسيران جنبا إلى جنب في خطين متوازيين تتعايشان في تجاهل تام: من جهة نخب لا شرعية لها همها الوحيد حماية مصالحها حتى و إن كان على حساب البلاد و سكانها، و من جهة أخرى مجتمع في حالة ضياع تحركه العصبيات البدائية، (صف ضد صف، يوسف و شداد، حسينية و باشية...) و دافع البقاء و الدفاع عن النفس أمام جور نظام البايات و أعوانه، في زمن اتسم بانعدام الأمن و الاستقرار .
لم يكن في اهتمامات النخب قبل الحماية وحتى قبل الاستقلال التعرض بالبحث والدراسة و التعريف بالثقافة الشعبية. في حين اهتم عديد الرحالة ومختصي علم الاجتماع والاتنولوجيا أو حتى ضباط الاتصال الفرنسيين بعديد المظاهر من الثقافة الشعبية كالشعر والخرافات والأساطير أو الوشام وغيرها. ولم يحضى الأدب الشعبي بالطباعة إلا عن طريقهم في مرحلة أولى ثم عن طريق بعض الجرائد والدوريات التونسية القليلة كجريدة الزهو للحاج عثمان الغربي الذي كان بدوره من ناظمي الملحون.
أما على مستوى البث الاذاعي، وفي الفترة الاستعمارية كانت تخصص للثقافة الشعبية حصة أسبوعية يتيمة تقم من خلالها عينات ونماذج من غناء الملحون أو من الغاني البدوية المصاحبة بالغيطة وآلات الإيقاع، فالساهرون وقتها على حظوظ الاذاعة كانوا أغلبهم من نخب الحاضرة تستهويهم أكثر وصلات المالوف وما يتصل بها من البشارف والسماعيات والفوندوات إلى جانت ولعهم بالطقطوقة المشرقية أو الأغاني المعروفة بأغاني سيدي مردوم والتي كانت من اختصاص المطربات اليهوديات كحبيبة مسيكة ولويزة التونسية و من شابههن.
غداة الاستقلال لم تكن الامور لتتغير كثيرا في المجال الاذاعي وحتى على مستوى التوجهات الكبرى في تصور المشروع الثقافي الجديد رغم مجهودات أصحاب العزائم الصادقة وفي مقدمتهم المرحوم الاستاذ محمد المرزوقي. بل بالعكس برز توجه توظيفي للثقافة الشعبية سياسيا عن طريق برامج إذاعية من نوع قافلة تسير. أمَّا على مستوى الرؤية الاستراتيجية للثقافة الوطنية ضل التوجه مركزا على عناصر الثقافة كما كانت تبدو في البلدان الغربية التي استكملت تجانسها على امتداد قرون من الصراعات السياسية والاجتماعية والتحديث عن طريق نشر التعليم واستنتجت من ثقافاتها الموسيقية الشعبية أو من منظومة مسرحها الشعبي أو ما تم اقتباسه من الأعمال اليونانية اليوناني بنية ثقافية يتم حولها الاجماع بصورة تدريجية وتتسع باتساع نفاذ الطبقات الشعبية في المدن والأرياف للتعلم والمعرفة. في حين تواصلت الرؤية للثقافة الشعبية في بلادنا رؤية كولونيلية فولكلورية فيها الكثير من الامتعاض والاحتقار.
ليس من البديهي اليوم التغلب على ما يزيد عن نصف قرن من الدمار المتواصل للذاكرة الجماعية رغم ما تتسم به هذه الذاكرة من المقاومة الشيء الذي جعلها تتواصل عبر الأجيال داخل المجتمع الأسري في منافسة غير شريفة مع أشكال ثقافية مشرقية وغربية وعالمية و"تونسية هجينة" وشعبية مزيفة تتمتع بقوة الجهاز السمعي والمرئي. ليس من البديهي اليوم المحافظة على تفاؤل مفرط في إنجاز ما كان يجب أن ينجز منذ أكثر من نصف قرن، بعد ثلاثة وعشرين علاما الممنهج لكل ما هو عمل ثقافي حتى ذاك المحاكي والذي شكل رغم كل شيء البعض من المناعة للحيلولة دون الغرق في الرداءة.
غير أنه كنَّا قبل نهايات 2010 في نفس التشاؤم بخصوص إمكانية تغير الأوضاع السياسية في بلادنا لما آلت إليه الأمور سياسيا وأخلاقيا واجتماعيا وطبعا ثقافيا، ومع ذلك حدثت المعجزة...
لذلك أعتقد أنه لا محيد عن ادماج الثقافة الشعبية في بناء مشروع الثقافة الوطنية المستقبلية، فالأمر لا يتعلق يترميم بناء اعتراه الخراب بسبب الهجر أو عدم الصيانة، وإنما المسألة هي بمثابة إعادة بناء على أسس سليمة لسببين أساسيين:
السبب الأول داخلي محلي وهو الأساسي يحيلنا على قضية الارتداد وعدم الارتداد أي محاولة الإجابة على سؤال: هل باغ المشروع الثقافي للدولة الما بعد كولونيالية لمرحلة عدم الارتداد والتراجع أو التقهقر؟ هناك عديد المؤشرات ( اجتماعية، ثقافية، أخلاقية، تربوية...) التي تدل على أن الارتداد ظاهرة فعلية وأن سرعة الارتداد أكبر من سرعة التحصيل والتراكم.
أمَّا السبب الثاني خارجي عالمي ولا يقل أهمية وهو يتصل بمفهوم عولمة الثقافة وانهيار الحواجز التقليدية المكبلة للتواصل من ناحية و من ناحية أخرى لتحول الثقافة بمكوناتها اللامادية والمادية إلى جزء بالغ الأهمية في رقم المعاملات التجارية الكونية، وارتفاع فاعليتها القيمية بين البشر.هذا إلى جانب تضاعف أنماط التعابير الجديدة والقنوات والحوامل التي تنتشر عن طريقها.
كما يجب الانتباه لانتهاء زمن المعسكرات التقليدية والانتماءات القومية الضيقة والحمايات الاصطناعية، فالعالم انفتح على بعضه البعض الشيء الذي يجعل الصراع تتحكم فيه معطيات عديدة لا يمكن أن يقع فيها الحسم بالأدوات لتقليدية التي تجاوزها الزمن.
لا تختلف الثقافة الشعبية عن أي ثقافة في مكوناتها المادية منها واللامادية كما لا تختلف أيضا عن غيرها في معاييرها النقدية والجمالية، ولا تخلف كذلك عن غيرها في قواعدها وضوابطها. والأهم هو أن لا يمكن اعتماد أي مقياس أو أي تعليل يجعل من الثقافة الشعبية أقل قيمة أو درجة أو جمالا من أي ثقافة أخرى. ففصلها من منظومة الثقافة الوطنية لا يرتكز لأي شرعية و يمن اعتباره شكلا من أشكال التمييز والإبادة الفكرية.
ولا يعتبر وجود الثقافة الشعبية كافيا إذا كان من باب الصدقات والمنة عوض أن يكون من باب الاستحقاق الطبيعي.
والاستحقاق لايقف عند فضاءات الإعلام وأجهزته ، ولن يكتمل إلا بالنفاذ للمؤسسات التعليمية و مراكز البحث والتوثيق بعد أن تتم عملية استكشاف مبدعيه ومردديه وحافظيه بطرق علمية لتحوله من تعبير تلقائي إلى باب من أبواب المعرفة الانسانية
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire