الحلقة الأولى
من التبعات المدمرة لفترة الحكم النوفمبري و لما قبله بسنوات أيضا، خنق كل مجالات الفضاء والعمل السياسيين، و تعميق الهوة الفاصلة ما بين النخب عامة والسياسية منها خاصة وبقية المجتمع. و لم تكن هذه الممارسات اليومية للنظام الحاكم تهدف إلى استجلاب المجتمع بكل فئاته لحزبه بل بالعكس كانت تعتمد أساسا على تقوية علاقات الزبونية والولاء اللامشروط فحسب، ولا ترمي من خلاله تقوية الوعي السياسي والاهتمام بالشأن العام بقدر ما كانت ترمي إلى الانغماس أكثر فأكثر في استغلال النفوذ والسلطة والانسياق في التكتلات المشبوهة لخدمة مختلف العصابات المؤثرة والنافذة على الساحة الوطنية والجهوية والمحلية.
هذا ما خلف في عمق المجتمع استقالة تكاد تكون جماعية عن الاهتمام بالسياسة بمعناها النبيل والسخي لخدمة المجموعة والمصلحة العامة، لتستأثر أقليات بالجهاز الحزبي التجمعي على كل المستوايات بالعمل على نسج شبكات عنقودية لنتشر الفساد بصورة تكاد تكون شاملة، لا يتمكن من انخرط فيها من الإفلات أو ادعاء نقاوته. و لم يسلم من هذه التبعات الأحزاب "الكرتونية" الموالية له.
ولعل الطامة الكبرى تتمثل في سياسة اليباب و نشر الفراغ السياسي اجتماعيا ببث الخوف والهلع في من تبقى ممن لم يلتحق بالتجمع و صنيعاته بخلق حزام عازل حول أحزاب المعارضة المحاصرة مقرات وصحافة و أنشطة، ليستفحل في صفوف الطبقة المتعلمة والوسطى اجتماعيا ما تم الاتفاق على تسميته "باللام بالات" و عدم الاكتراث بمصير البلاد والذي أعبر عنه "بالتفليقة" الهادئة والصامتة.
و حتى يكتمل المخطط التدميري، أطلق العنان لإلهاء المجتمع في الترفيه الكاذب من جهة وفي تفريغ الاحتقانات من جهة أخرى، عن طريق:
· السيطرة شيئا فشيئا على الفضاء السمعي البصري (إذاعة موزايك، كاكتوس للإنتاج...) و الهيمنة على القنوات العمومية، و تطويع عدد من الصحف المأجورة.
· نشر المحاصصة والزبونية في الحقل الثقافي.
· تغطية البلاد بكامل معتمدياتها بمهرجانات ضحلة وذات برمجة ينحدر فيها الذوق للدرك الأسفل.
· توظيف النشاط الرياضي -الذي يكاد أن ينحصر في كرة القدم- لامتصاص فائض الاحتقان والغضب لدى الشباب في صراعات هامشية تأخذ فيها الصراعات بين الجهات أبعاد حرب أهلية تشجعها عديد الأطراف والصحف والبرامج التلفزيونية لتتحول إلى مشهد فرجة أو ملهاة تستقطب اهتمام الناس و تلهيهم عن الانشغال بأحوالهم و معيشتهم و تطلعاتهم.
بالإضافة إلى هذا،لابد من الإشارة إلى ظاهرة ما يُسَرَّب –عمدا أو تبجحا- من "بطولات" و صولات العائلة الحاكمة والتي جعلت من "إذاعة قالوا" وما تتطلبه من سبق واطلاع ومعرفة ودراية، الرياضة الوطنية الأولى "لألسن" التونسيين، كتعبير لأزمة حادة من المازوخية الجماعية.
أما على المستوى الفضاء المدني و ما كان موروثا من أواسط العهد البورقيبي من ثمرة النضال السابق، فقد أضحى مستهدفا تدريجيا بمحاصرة وخنق وتدمير ممنهج يرمي إلى اقتلاع كل جيوب المقاومة المدنية، إمَّا بتحويلها عبر مؤتمرات مزيفة أو انقلابات مفبركة إلى أجهزة عميلة للنظام وأبواق دعاية للجنرال الفار.
كل هذا سيعطي لمشهد المجتمع التونسي صورة تسودها مفارقات رهيبة، تشكلت من تلقاء نفسها تحت وطأة ما اعتمل داخل المجتمع منذ تمفصل نهاية مرحلة الاشتراكية وانطلاق التوجه الليبرالي مع الهادي نويرة. و لعل لما حدث من تطورات مهولة في الفضاء العمراني لتونس الكبرى مثال مصغر لما حدث على صعيد كامل البلاد طيلة أكثر من 40 عاما، أي ما يعادل جيلا أو أكثر. هذه التطورات اللتي تسارعت و تجاوزت رؤى المستشرفين والمخططين فضلا على غياب التحاليل والدراسات الميدانية من قبل مختصين في الاجتماع والتهيئة الترابية وقضايا التنمية و غيرها.
تراكمات هائلة من الفوارق الاجتماعية والصلف والثراء الفاحش المتبجح يقابله كبت وغيض مستبطن وحرمان مطرد يتولد عنها هروب إلى المجهول في عوالم شتى من الانحراف إلى الاحتراق المادي والمعنوي في شق من المجتمع، ومغالاة في السيطرة على كل موارد الثروة، والإيغال في التصرفات اللاأخلاقية والمجاهرة بها بكل خيلاء.
أجيال تتدافع عند مداخل ومخارج المنظومة التعليمية بصفتها ما زالت تشكل أمل الرقي الاجتماعي والخلاص من عقد الفقر والفاقة والاحتياج تجد نفسها أمام جدار يعزلها عن أي قبس من الأمل في شيء يبعث على التفاؤل، حتى الأمل في خلاص إلاهي بواساطة مبشري الحركات الإسلاموية تراجع بصورة مفاجئة...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire